هذه حلقات من دراسة طويلة تبحث وتحلل في تجربة صوت الأرض طلال مداح (1940-2000) تتناول أبرز ملامح التجربة الغنائية لكونها إحدى تعابير حركة التطور الثقافي السعودي خلال منتصف القرن العشرين ، فلا نستطيع أن نعرف ماذا يحدث الآن إذا جهلنا ما حدث سابقاً، وصوت مداح كان حنجرة شاهدة على جيلين سبقوه فيما شكل منعطفاً حاسماً في تطور جذري للأغنية السعودية بمساهمة مواهب كبيرة وضعت صوته شاهد مرحلة.

إن ما يميز اللحظة الحاسمة في تاريخ شعوب الجزيرة العربية تلك النقلة الحضارية مطالع القرن العشرين على مستويات عدة سياسية واقتصادية واجتماعية ضمن إطار إيديولوجي وهذا ما عكسته الثقافة وعناصرها الأكثر حيوية المتمثلة في الآداب والفنون فرديها وجماعيها، ولعل نموذج أغنية أو لوحة أو مسرحية ما يعبر عن حالة مجتمعية إن لم يكن يكشف عن ملمح حضاري في جغرافيا وزمن ما.

إذا كان المغني المكي محمد علي سندي (ت.1984) كمثال يعبر عن حالة تقليدية في الفنون الحجازية مثلما نرى في المغني والشاعر أبو سعود الحمادي كمثال يعبر عن حالة تقليدية في الفنون النجدية فإن الحالة الشعبية تتجلى في نموذج حجازي بأغاني وألحان فوزي محسون (ت.1988) مثلما تتجلى في نموذج نجدي بأغاني وألحان بشير حمد شنان (ت.1974)، ولعل تراكمات الحالة الحضارية بمستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية نطقت عنها الثقافة في تحولات عسيرة بعضها بطيء وآخر متسارع، خاصة، في تطورات النموذج الإنساني الذي بدأ يتشكل في المدن هاضماً الكثير من تلك التحولات ومعبراً عنها في فنونه وآدابه.

ولعل الصوت البشري إذا غنى كثف التعبير عن اللحظة الثقافية بما يتوفَّر له من شعر ولحن وأداء ينفذ من خلال الصوت كوسيلة وواجهة تعبر بمدلول ثقافي، وربما كان الشاهد على ذلك ما للشعوب في الجزيرة العربية، خاصة في بلادنا المملكة العربية السعودية من موزاييك من الثقافات لوفرة التعدد الإقليمي المتباين في ملامح تفترق بين منطقة وأخرى، وما أسهمت به من أثر مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحركات التطور الثقافية على مختلف مناحي الحياة نلتمس ملامحها في المنتوجات الإبداعية. ولا يسعنا معرفة ما قدَّمه طلال مداح أو ماهية الدور الثقافي كونه حالة فنية تشكل منعطفاً في فن الغناء السعودي دون قراءة المشهد العام لما تمثله مراكز غنائية بارزة بين نجد والحجاز والأحساء كذلك الجنوب ضمن مواكبة لحركة شاملة في تطور غناء الجزيرة العربية خاصة في مراكزها الخليجية: الكويت والبحرين واليمن.

نحو خارطة لمصادر الغناء

إن رسم أبرز أشكال وأنواع التراث الغنائي في مناطق المملكة لا يتم دون اعتبار إحدى المكونات الأساسية في صنع الأغنية السعودية، وهذه الأشكال والأنواع الغنائية بعضها متمركز في مناطقه بسبب الوظيفة الاجتماعية في مهن وبيئات مثل: الهيجنة (لأهل الجماميل)، وحداء السواني (استخراج الماء)، وأغاني البناء والفلاحة والطحن ونحوها. بينما هناك مكونات أساسية منها الأشكال الشعرية والأنماط اللحنية والألوان الإيقاعية وحركات الرقص التي تشكِّل طُرقَ الأداء والتلحين والكتابة الشعرية أي: قوالب الغناء المكتملة بنيوياً، مثل: فن السامري في نجد، وفن النهمة (غناء البحر) في الأحساء، وفن الصهبة في الحجاز.

وتتمايز المناطق بحسب الأقاليم في المملكة بما لها من ملامح المفارقة شديدة الخصوصية كذلك الملامح المشتركة، ونرى بنماذجها مثل فن المجرور الطائفي المنشأ وفن المجس (الموَّال المكي)، بينما نجد فن الدان مشتركاً بين الحجاز واليمن فيما نجد فن العرضة والسامري مشتركاً بين حائل والقصيم ونجد (الرياض والدرعية والوشم) والأحساء فيما تختلف الأخير بفن النهمة (غناء البحر) ونعرف المشترك بين فن اللعبوني من جذور طالعة من فن السامري ولكنها تطورت حتى فن الخمَّاري المشترك بين الكويت والبحرين والزبير ذات الأصول المشتركة بينها وبين نجد.

وإذا كان غناء القصيدة العربية أحد العناصر المشتركة بين حواضر الجزيرة العربية وربما كل البلاد العربية ولكل منطقة قالبها الخاص كأن نرى قالب فن الصوت في الكويت والبحرين والأحساء وقطر مشتركاً بينما يدخل غناء القصيدة العربية في الحجاز بفن الدان وسواه، ولكن حدثت تطورات كبيرة في تلحين القصيدة العربية بالجزيرة العربية واكبت التطورات في مصر ثلاثينيات القرن العشرين، حيث قدمت بواكير تطور طرق تلحينها في اليمن على يد محمد جمعة خان ولحقه أحمد قاسم وفي الكويت على يد أحمد الزنجباري وصالح الكويتي ثم سعود الراشد وأحمد باقر.

وتوفرت نشأة طلال مداح في طفولته ومراهقته وفتوته الأولى بين الأربعينيات والخمسينات الميلادية أن يجمع بين موروث حضرمي يعود بأصول والده علي باجابر الذي كان يزاول أنماط الغناء الحضرمية والصنعانية، وبين ما تعلمه طلال نفسه في الطائف من فنون الغناء الحجازية التقليدية عبر محمد الريس أحد تلامذة حسن جاوة كذلك الأب الأكاديمي للأغنية السعودية طارق عبد الحكيم (مواليد 1918) مؤسِّس مدرسة موسيقات الجيش العربي السعودي (1953)، حيث آتت ثمارها بعد تخريج أولى دفعاتها الذي شكلوا عناصر حركة غنائية أظهرت عازفين أكاديميين وملحنين كان بعضهم نواة فرقة الإذاعة (1961)، مثل: الملحن والمغني الكبير عبد الله محمد (1924؟-1997) ثم في مرحلة لاحقة تأثر طلال عندما انتقل جدة بالمطرب والملحن الكلاسيكي الكبير مطلق الذيابي (1927-1982) والمغني والملحن فوزي محسون (1925-1988) وفيها استفاد من الملحن والمغني عمر كدرس (1934-2002) كذلك فنون الغناء العربي من مدرسة الغناء المصرية والسورية واللبنانية والكويتية واليمنية بما يفد من أسطوانات لمحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وسعود الراشد وعوض دوخي وسواهم كذلك احتكاكه بموسيقيين كبار من لبنان مثل توفيق الباشا وزكي ناصيف كذلك ميشيل المصري وهاني مهنا.

استطاع طلال مداح بما توفر له من صوت فريد في تركيبته الفيزيائية ذكورياً بمساحة صوتية تغطي ديوانين- ctavs 2أي 16درجة صوتية بين درجات علو وانخفاض بما يصنف صوته ضمن دائرة الصوت الصادح -Tenor الدرامي أي: مغني الدرجات العالية بليونة وتلوين متواز للأحاسيس المختلفة بحسب الجملة الشعرية واللحنية المتطلبة لدوريها، وهذا ما وضح في أدائه لأعمال تقليدية مثل المجس (الموال) والمجرور والدان كألوان صعبة -جهل الكثير من نقاد وصحافة فنية ذموا تغييراته الجديدة فيها- ثم استثمره جيداً سواء في ألحانه أو ألحان وضعت خصيصاً لصوته الكبير من سراج عمر حيث راعاه كل من عمل معه لاحقاً مثل: عبد الله محمد وغازي علي ويوسف المهنا وسعود الراشد ومحمد شفيق وعدنان خوج ومحمد المغيص ثم في مرحلة لاحقة عبد الرب إدريس وخالد الزايد وغنام الديكان كذلك توفيق فريد وصالح الشهري وآخرون.

وليست المسألة في تعدد الملحنين فقط بل سنوضح لاحقاً ما تطلبته أغانيه من قدرات صوتية وطرق أداء ميزته ووضعت فاصلاً كبيراً بين من سبق مرحلته ومن سيلحق من أجيال كان جسرها الغنائي نحو حساسية جديدة في الغناء السعودي لحناجر لم تقع بالتأكيد في تقليده مثل: محروس الهاجري وأيوب خضر ثم في مرحلة أخرى عبد المجيد عبد الله وطلال سلامة وأسامة عبدالرحيم كذلك عارف الزياني وعبد الله الرويشد.