The Wayback Machine - https://web.archive.org/web/20200529192808/http://minbaralhurriyya.org/archives/2647

الحرية الدينية في المجتمعات الإسلامية في القرون الوسطى

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

لقد كانت مشاهد تراجيدية و مؤثرة تلك التي شهدها ميناء الدار البيضاء في الستينات من القرن الماضي عندما كانت أفواج من اليهود تغادر المغرب في اتجاه فرنسا أو كندا أو إسرائيل. حالات من التمزق و البكاء على فراق وطن عاش فيه أجدادهم منذ قرون، على الأقل منذ دفعهم التعصب الديني و محاكم التفتيش إلى مصاحبة المسلمين إلى شمال إفريقيا. إنها لمفارقة غريبة حقا هذه التي تجعل أناسا يحزنون لمغادرة بلد عاشوا فيه كأقلية دينية وسط أغلبية ساحقة من المسلمين. هل كان شعورهم مثل أي يهودي في القرون الوسطى لا يعتقد أن بإمكانه العيش في دار أخرى غير دار الإسلام كما يقول الكاتب الفرنسي جاك أتالي على لسان بطل روايته التاريخية “زاوية المستنيرين”؟  هل مجرد شعور الحزن هذا الذي صاحب رحيلهم يعطينا الحق في الجزم أنهم عاشوا في وضعية جيدة بين المسلمين؟ هل تواجد المسيحيين و اليهود بكثافة  في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا يدل على أنهم تمتعوا بحرية كاملة في المجتمع الإسلامي الذي عاشوا فيه؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب تحليلا دقيقا و موضوعيا لوضعية الأ قليات الدينية و هامش الحرية الذي تمتعوا به في المجتمعات الإسلامية في القرون الوسطى.
أهل الديانات الأخرى في التشريع الإسلامي
إن الإسلام يقوم على مبدأ نشر الدعوة أي دفع غير المسلمين إلى اعتناقه. .لكن و في مقابل ذلك أقر وضعا خاصا لأصحاب الديانات السماوية الأخرى من النصارى و اليهود و الصابئة.  فاعتبر من عاش بينهم تحت حكم المسلمين أهل ذمة.  أي  أولئك الذين أعطوا العهد من طرف الدولة الإسلامية على حماية عرضهم و دينهم و مالهم مقابل ضريبة يدفعوها لبيت مال المسلمين تسمى “الجزية”. ويدهب البعض إلى أن هذه الضريبة هي تمييز في حق أصحاب الديانات الأخرى وإمعان في إذلالهم بعد استيلاء  المسلمين على أراضيهم.  في حقيقة الأمر إن الضريبة التي كان يدفعها غير المسلمين من اليهود و النصارى كانت تعفيهم من أداء فريضتين من الفرائض الواجبة على المسلمين و هما الجهاد و الزكاة. وإذا أخذنا بعين الإعتبار كيف كانت الحروب أمرا شائعا في القرون الوسطى و ما تشكله المشاركة فيها من تهديد حقيقي على حياة الإنسان فإن الإعفاء من هذا الأمر لا يقدر بثمن.  و قد دهبت بعض المصادر إلى أن أفراد القبائل اليهودية والنصرانية ممن حاربوا في صفؤق المسلمين قد أعفوا من أداء الجزية.  و نذكر في هذا الصدد حالة أهل الحيرة الذين كانوا يعتنقون النصرانية و كانوا يعيشون على حدود الدولة الإسلامية مع الروم، فعندما جمع هرقل الجيوش لحرب المسلمين الذين لم يقووا على حربه في هذه الفترة أمر الخليفة ولاته برد أموال الجزية إليهم.
أما عن حرية أهل الذمة في ممارسة شعائرهم الدينية فصحيح أنهم لم يكونوا يتمتعوا بالحرية الكاملة في بناء الكنائس و البيع فإنهم كانوا يتوفرون علي  قدر معقول من الحرية في أداء فرائضهم الدينية.  كما حا فظت الدول الإسالامية المتعاقبة على الكنائس التي ظلت قائمة منذ قرون لكي تقام فيها شعائر المسيحيين.
و قد يبدو هذا الأمر عاديا إذا ما قارناه بالبيئة المتسامحة للديمقراظيات الغربية الحالية لكن إذا عدنا إلى دولة دينية كتلك القائمة تحت حكم الملوك الكاثوليكيين في إسبانيا خلال القرون الوسطى لوجدنا كل المساجد قد تحولت إلى كنائس بعد استرجاع المسيحيين للأندلس.  ناهيك عن تنصير اليهود و المسلمين و طرد من رفض منهم إلى شمال إفريقيا.  و على النقيض من ذلك نرى كيف أن استرجاع المسلمين للقدس على يد صلاح الدين لم يغير المعالم المسيحية للمدينة التي لا تزال قائمة لحد الآن.
الوضعية الإجتماعية و السياسية لليهود و النصارى داخل المجتمعات الإسلامية في القرون الوسطى
في البداية لا بد من الإشارة إلى أنه كانت هناك قواعد مجتمعية يمكن اعتبارها تمييزية في حق اليهود و النصارى. و هي أقرب إلى العادات و التقاليد منها إلى التشريعات و النظم. و من ذلك أن منازل أهل الذمة لا يجب أن تتجاوز في  العلو منازل المسلمين كما يمنع عليهم البناء قرب المساجد.  و من أجحف هذه التقاليد في نظرنا تلك التي كانت تلزم اليهودي بالنزول من فوق دابته إذا مر بجانبه مسلم.
إذن فأهل الذمة لم يكونوا يوما رعايا متساوي الحقوق و الواجبات مع باقي أفراد المجتمع من المسلمين. لكن وبدون شك فإنهم تمتعوا بهامش من الحرية يعتبر الأكثر جرأة في مجتمعات القرون الوسطى حيث كان الإستيلاء على الأراضي وتهجير ساكنيها أمرا شائعا.  و يتضح هذا الأمر جليا في المقولة التالية للمستشرق المعروف برنارد لويس :” إذا ا قارننا بين الإسلام  النظري و التطبيقي و الديموقراطيات الغربية الحالية فإن نتائجه ستكون باهتة لكنه سيتفوق بسهولة على المجتمعات المسيحية التي سبقت التطور الديموقراطي في أوروبا. ليس في الإسلام ما يشبه أفكار الإدماج و القبول التام بالآخر لكن ليس فيه أيضا ما يشبه ا لطرد الجماعي لليهود و المسلمين و محاكم التفتيش في إسبانيا انكاتوليكية”.  لقد كان أفراد الأقليات الدينية هم الضحايا الأوائل لأعمال النهب و التخريب التي عادة ما تصاحب الفتن و القلاقل. لكن و في فترات الإستقرار السياسي كانو ا يعيشون بسلام وسط المسلمين. أما في فترات الإزدهار المتميزة في تاريخ الحضارة الإسلامية كالخلافة العباسية ببغداد و الأموية بالأندلس، فهناك شبه إجماع بين المؤرخين على نشوء بيئة حفزت على الخلق و الإبتكارفي مجالات العلوم و الآداب. بيئة شارك فيها غير المسلمين من اليهود و النصارى فألفوا الكتب و مارسوا التجارة و ا حتلوا المناصب العليا في بلاط السلاطين.
فهذا الفيلسوف اليهودي موسى ابن ميمون  الذي ولد في قرطبة و عاصر ابن رشد و سار على نهجه في شرح أرسطو و التقريب بين الفلسفة و الدين، لكن مصيره كان أفضل منه حين هاجر إلى مصر و أصبح الطبيب الخاص للسلطان صلاح الدين.  وفي عصر الخلافة الأموية في الأندلس أصبج اليهودي حصداي ابن شتروت الطبيب الخاص و المستشار الأول والمكلف الفعلي بالعلاقات الخارجية و ا اتجارة في بلاط عبد الرحمن الناصر. أما المسيحيون فقد برعوا في عهد الدولة العباسية في ترجمة كتب الإغريق من اليونانية إلى السريانية إلى العربية وقد كانت أهم مراكز الترجمة بالموصل و الرها وقنسرين. أما المترجمون المسيحيون قكان من أشهرهم إسحاق ابن حنين و متا ابن يونس و يوحنا ابن البطريق.
إن هذا الموضوع يجر نا إلى الفترة الراهنة و إلى نقاش عقيم غالبا ما يدور بين الإسلاميين و العلمانيين. ففي الوقت الذي يعتمد فيه الإساميون على قراءة انتقائية للتاريخ الإسلامي تركز على الفترات الزاهرة فيه، لا ينصف العلمانيون الإسلام بالإصرار على مقار نته بالديمقراطياث الحديثة و ما تمنحه من مواطنة كاملة للأقليات الدينية.  و الحقيقة تبقى بين هذين النقيضين، فعلي المسلمين أن يعتزوا بهامش الحرية الذي وفرته الدولة الإسلامية لليهود و النصارى في القرون الوسطى و في نفس الوقت  يجب عليهم أن يعملوا على رفع كل أشكال الحيف و الميز التي تطال أفراد الأقليات الدينية بل يجب الاتجاه نحو تحقيق مساواة كاملة في الحقوق و الواجبات بين كل المواطنين. إن خلق بيئة تتسم بالتسامح و الحرية و التعددية لكفيل بإعادة روح الخلق و الإبتكار و الإبداع إلى المجتمعات الإسلامية.  روح قد تساعد على إطلاق د ينامية اقتصادية تخرج البلدان الإسلامية من براثين التخلف و تدفع بها نحو إرساء دعائم تطور اقتصادي و سياسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018