الخارجية السعودية... من فكر المؤسس إلى حنكة الأبناء

الوزارة الأولى في عامها 91 ما زال التساؤل عن الوزير الذي لم يحمل اللقب

الخارجية السعودية... من فكر المؤسس إلى حنكة الأبناء
TT

الخارجية السعودية... من فكر المؤسس إلى حنكة الأبناء

الخارجية السعودية... من فكر المؤسس إلى حنكة الأبناء

تمر هذه الأيام حاملة معها ذكرى تأسيس أول وزارة سعودية؛ هي وزارة الخارجية والتي صدر أمر ملكي بتاريخ 16 ديسمبر (كانون الأول) 1930م بتحويل مديرية الشؤون الخارجية إلى وزارة الخارجية وتعيين (الأمير) فيصل بن عبد العزيز وزيراً لها، ونشر هذا في صحيفة أم القرى يوم 19 ديسمبر 1930م.
ورغم أن هنالك لبساً حول أول وزارة تأسست في عهد الدولة السعودية، فإن المصادر تؤكد أن وزارة الخارجية هي أول وزارة تم تأسيسها في السعودية وتولاها (الملك) الأمير فيصل بن عبد العزيز خلافاً لما يتداول من أن وزارة المالية هي أول الوزارات وأن الشيخ عبد الله السليمان هو أول وزير.
وقد أرجع سبب ذلك الراحل الدكتور عبد الرحمن الشبيلي إلى أنه عائد لنقص واضح في تدوين نشأة بعض الكيانات الأهلية والحكومية في السعودية على الرغم أنها عملية ميسورة وغير مكلفة.
وبمناسبة مرور 91 عاماً على تأسيس أول وزارة في السعودية تنشر «الشرق الأوسط» توثيقاً تاريخياً لميلاد ونشأة الخارجية السعودية وتشكيلاتها والتطورات التي مرت بها، إضافة إلى توثيق لسير بعض كبار مسؤولي الوزارة ورواد العمل الدبلوماسي السعودي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر*

@ «نجدية» العنوان البرقي للسفارات السعودية في الخارج

منذ ما قبل تأسيس الدولة ارتبطت نشأة السياسة الخارجية (السعودية) بالملك عبد العزيز شخصياً، حيث كان يشرف بنفسه على جميع مهام الشؤون الخارجية بما في ذلك المراسلات والاتصالات مع الدول التي لها علاقة بالأقاليم التي يضمها إلى حكمه ولقاء مبعوثيها، والتفاوض حول كل شؤون علاقاته بتلك الدول. وقبل وجود الهياكل السياسية الرسمية، اتخذ الملك المؤسس من التجار (النجديين) المقيمين في الخارج، كآل فضل ثم الفوزان في الهند، والقصيبي في البحرين، والسابق في الشام ثم مصر، والنفيسي في الكويت، والمنديل في البصرة وبغداد، وغيرهم كوكلاء له في الدول الخارجية، وكانت تلك الوكالات تسمى (الوكالة العربية أو النجدية) وذلك قبل ضم الحجاز، وأظن أن العنوان البرقي للسفارات السعودية في الخارج (نجدية) استمد الاسم من تلك الوكالات.
* بداية وزارة الخارجية السعودية بغرفتين في مكة
في يوم 15 يناير (كانون الثاني) 1927م باشر فؤاد حمزة عمله وكيلاً لمديرية الشؤون الخارجية، سبق ذلك بأشهر وتحديداً في سبتمبر (أيلول) 1925م (وليس 1926م كما ورد في كثير من المصادر) تأسيس المديرية وتعيين الدكتور عبد الله الدملوجي مديراً لها. يصف فؤاد حمزة في مذكراته: «وجدت الخارجية حينما جئت إليها مكونة من غرفتين، في إحداهما يجلس المدير وعنده عدد من الكراسي، وغرفة الكتابة وفيها خزانة تضم أوراق الدائرة موضوعة في 7 أضابير فقط...». كانت تلك الغرفتان في مبنى الحكومة المعروف بـ«الحميدية» في حي أجياد بمكة المكرمة، المقر الأول للخارجية السعودية.
هنا تكمن أهمية المذكرات والوثائق الخاصة التي يدونها رجالات الدولة وشهود الأحداث في إلقاء الضوء على تفاصيل دقيقة من التاريخ السياسي والإداري للمملكة العربية السعودية، والذي ما زال في حاجة إلى كثير من البحث والتنقيب والتوثيق لجوانب مهمة منه. وسيتناول هذا البحث جوانب من تاريخ نشأة وزارة الخارجية السعودية وتشكيلاتها عند تأسيسها كما سيُعرّف بأبرز رجالات السياسة السعودية الذين عاصروا إنشاء الوزارة، كما سيتم التطرق إلى المرحلة التي سبقت ذلك، إضافة إلى لمحات عن المراحل التي مرت بها وزارة الخارجية، وإضاءات عن بعض شخصياتها ودبلوماسييها في محاولة لتوثيق سير من لم توثق سيرهم بشكل دقيق، خاصة خلال مرحلة تولي كل من الملك فيصل وإبراهيم السويل منصب وزير الخارجية (1930 إلى 1975م).
* من كان الوزير الثالث للخارجية السعودية بعد وفاة الملك فيصل؟

كما سيتم طرح تساؤلات عن الفترة التي تلت وفاة عمر السقاف وزير الدولة للشؤون الخارجية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1974م ثم وفاة الملك فيصل في مارس (آذار) 1975م، وتعيين الأمير سعود الفيصل وزير دولة للشؤون الخارجية لمدة ستة أشهر، وما إذا كان هو فعلاً الوزير الثالث للخارجية السعودية أم أن هناك شخصاً آخر حمل الحقيبة قبله؟
مع التأكيد على ضرورة القيام بعمل توثيقي مؤسسي لتوثيق تاريخ الوزارة وسير أعلام الخارجية السعودية، حيث إن كثيراً مما هو منشور عن بعضهم يعتريه النقص ويفتقد إلى الدقة، كما أنني حاولت البحث عن أي دراسة تاريخية وثائقية شاملة عن وزارة الخارجية ونشأتها وتشكيلاتها، فلم أعثر على أي بحث يتناول هذا الموضوع بشكل وافٍ، رغم وجود معهد الأمير سعود الفيصل للدراسات الدبلوماسية وكثرة أقسام وكليات التاريخ والعلوم السياسية في جامعاتنا وأكثر منها الأكاديميين الذين انتقلوا للعمل في وزارة الخارجية! مع عدم إغفال الجهد المؤسسي الذي قامت به مكتبة الملك عبد العزيز العامة في إصدار «موسوعة تاريخ الملك عبد العزيز الدبلوماسي» عام 1999م، وكذلك «معجم السفراء السعوديين»، الذي أصدرته وزارة الخارجية عام 2002م ثم صدرت طبعته الثانية عام 2016م. وطوال مدة العمل على هذا البحث كان هناك تساؤل: أما آن لهذه القطيعة مع التاريخ أن تتبدل؟ ليس على مستوى المؤسسات فحسب؛ بل حتى على مستوى الأفراد؟ فكثير من أبناء وأحفاد رجالات الدولة السابقين لا تتوفر لديهم معلومات وافية عن حياة آبائهم الإدارية والسياسية، وهذا يرجع في تقديري إلى غياب ثقافة التدوين والتوثيق الشخصية، ثم الحساسية تجاه الاحتفاظ بأي نسخ من الوثائق والمراسلات التي تخصهم.
* الشعب السياسية والشفرة والبرقيات نواة المطبخ السياسي في السعودية

إن المتتبع لتاريخ نشأة أجهزة ومؤسسات الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز ليعجب من طريقة توظيفه لأدوات التنمية السياسية والإدارية وقدرته على استقطاب الخبرات والكفاءات المؤهلة وإشراكهم في تشكيلات الحكومة القائمة وقتذاك والتي كان بعضها من ابتكاراته وتفرداته، كمجلس المستشارين الذي مثّل مع الشعبة السياسية وشعبة الشفرة والبرقيات في الديوان الملكي، المطبخ السياسي للدولة وفقاً لوصف الدكتور عبد الرحمن الشبيلي. ورغم أن تاريخ نشوء وتطور البلاط الملكي السعودي بكافة دواوينه ومجالسه وشعبه، يحتاج كذلك إلى مزيد من البحث والتوثيق، فإنه يمكن القول إنه بعد ضم الأحساء في جمادى الأولى 1331هـ الموافق مايو (أيار) 1913م، تطورت الاتصالات والعلاقات بالدول الأجنبية المؤثرة آنئذٍ كالدولة العثمانية وبريطانيا العظمى، فتطورت تشكيلات وأساليب العمل الحكومي بما يتناسب مع الواقع الجديد.
يصف الدكتور الشبيلي الشعبة السياسية بأنها كانت وزارة خارجية متنقلة مع الملك تتعامل مع الوثائق والمراسلات والاتفاقيات، كما تقدم الإسناد الإداري والفني والفهرسة لمجلس المستشارين.

أوائل مستشاري الملك عبد العزيز في الشؤون السياسية

1 - الأمير أحمد بن عبد الله الثنيان

(الذي أشرف على انسحاب الأتراك من الأحساء)
ولد ودرس في تركيا، وكان له باع في الشؤون الخارجية، ويتحدث اللغات التركية والفرنسية والإنجليزية. يعتبر أول مستشار سياسي يلتحق بخدمة الملك عبد العزيز نحو عام 1911م، وشارك في بعض الحملات العسكرية، وكلف بمهام وبعثات سياسية، وتشير بعض المصادر إلى أن مهماته السياسية بدأت قبل ضم الأحساء، وأشرف على انسحاب الحامية التركية منها، ثم مثّل إمارة نجد في أول مفاوضات رسمية مع الحكومة البريطانية التي أسفرت عن توقيع اتفاقية دارين عام 1915م، كما رافق (الملك) الأمير فيصل في أول رحلة خارجية إلى أوروبا عام 1919م، وكانت آخر مهماته السياسية مشاركته في مؤتمر المحمرة عام 1922م، وتوفي في الرياض عام 1923م.
2 - الدكتور عبد الله بن سعيد الدملوجي

(أول مستشار عربي يلتحق بخدمة الملك عبد العزيز)
درس في المدرسة الإعدادية العسكرية في بغداد، وتخرج طبيباً في كلية حيدر باشا في تركيا، وعمل في الجيش العثماني في أوروبا ثم عاد للعراق، يجيد اللغات التركية والفرنسية. التحق بخدمة الملك المؤسس طبيباً خاصاً نحو عام 1914م ثم أصبح مستشاراً، ويعتبر أول مستشار عربي (غير سعودي) يلتحق بخدمة الملك عبد العزيز. مثّل سلطنة نجد في مؤتمر العقير عام 1922م، ووقع على الاتفاقيات الحدودية بين نجد وكل من العراق والكويت. عين رسمياً أول مدير للخارجية السعودية عام 1925م، واشترك في مفاوضات جدة مع الحكومة البريطانية. عاد إلى العراق في عام 1928م وتولى عدداً من المناصب وأصبح بعد ذلك وزيراً للخارجية العراقية.

3 - الشيخ إبراهيم بن محمد بن معمر

(رفض تنكيس العلم السعودي في مناسبات الحداد وتم اعتماده حتى اليوم)
درس في الكويت والهند، يتحدث اللغات الإنجليزية والأوردية والفارسية. التحق بخدمة الملك عبد العزيز نحو عام 1912م، ويعتبر مع ابن ثنيان والدملوجي من أوائل المستشارين السياسيين، وورد في بعض المصادر أنه كان مكلفاً بملف الاستخبارات الخارجية! إضافة إلى انتدابه في مهمات خاصة وبعثات خارجية إلى أوروبا وعدد من البلاد العربية. كان له جهد إعلامي وشارك في الرد على الحملات التي كانت تثار ضد الملك عبد العزيز، وفي عام 1926م عين رئيساً للديوان الملكي، ثم وزيراً مفوضاً في العراق عام 1933م، وهو صاحب مبدأ عدم تنكيس العلم السعودي في مناسبات الحداد، وهو تقليد تم اعتماده رسمياً بعد ذلك، ثم عين قائماً لمقام (محافظ) جدة في عام 1937م واستمر حتى وفاته عام 1958م، وقد كلف خلال تلك المدة بعمل وكيل وزارة الخارجية.

4 - الشيخ حافظ وهبة

(خريج الأزهر وأول وزير سعودي مفوض في لندن)
درس في الأزهر وفي مدرسة القضاء الشرعي بمصر، وتنقل بين الأستانة والهند والبحرين والكويت؛ حيث عمل مدرساً في المدرسة المباركية. التحق بخدمة الملك عبد العزيز نحو عام 1923م، وشارك ضمن الوفد النجدي في مؤتمر الكويت عام 1924م، وكلف بمهام إدارية وتنظيمية بعد ضم الحجاز، كما انتدب في مهمات خارجية، وشارك في مفاوضات بحرة وحدة عام 1925م ومفاوضات جدة عام 1927م مع الحكومة البريطانية، ثم عين مديراً للمعارف، وفي عام 1930م عين وزيراً مفوضاً في لندن، وشارك في عام 1945م ضمن الوفد السعودي برئاسة (الأمير) فيصل للتوقيع على ميثاق تأسيس هيئة الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو، وفي عام 1948م أصبح سفير جلالة الملك في لندن.

5 - السيد حمزة بن إبراهيم غوث

(بسبب اسمه ومكان ولادته اختاره الملك عبد العزيز سفيراً له في إيران)
تلقى تعليمه في المدرسة الرشدية ثم الناصرية بالمدينة المنورة وفي حلقات المسجد النبوي كما تعلم اللغة التركية. تولى رئاسة بلدية المدينة المنورة أثناء الحكم العثماني كما عمل مستشاراً ومبعوثاً سياسياً لأمير حائل آنذاك عبد الله المتعب الرشيد. التحق بخدمة الملك عبد العزيز عام 1922م وأصبح مستشاراً للشؤون السياسية. كلف بمهمات سياسية خارجية ورأس الوفد النجدي إلى مؤتمر الكويت عام 1924م، كما كلف معاوناً لأمير المدينة المنورة، وفي عام 1930م عين عضواً في مجلس الشورى، وفي عام 1938م عين قنصلاً عاماً ووزيراً مفوضاً في العراق ثم سفيراً لدى إيران عام 1947م. ولتعيينه قصة يجدر ذكرها تبين بعد نظر الملك المؤسس، وإدراكه لواقع الدول وتوجهات الرأي العام، ودقيق فهمه للسياسة الخارجية، وهي أن الملك عندما قرر تعيينه سفيراً في إيران قال له: «أنا عندما اخترتك سفيراً لدى إيران لأسباب لا تخفى عليك، منها أنك سيد! واسمك حمزة! ومن المدينة المنورة! والإيرانيون يهتمون بذلك! ولهذه الأسباب مجتمعة وقع اختياري عليك...».

* بعد ضم الحجاز انطلقت المرحلة الثانية للخارجية السعودية

قد تكون هذه اللمحات التاريخية مهمة لفهم تطور التنظيمات الحكومية السعودية والتي مرت بمراحل مختلفة تبعاً لظروف تطور الدولة، مع الإشارة إلى أن كثيراً من التفاصيل المتعلقة بنشوء وتطور أجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة تستحق التدوين الدقيق والتوثيق العلمي لمراحلها المختلفة، ليس لأهميتها التاريخية فحسب؛ بل لأبعادها الإدارية والسياسية كذلك. حيث إن تاريخ التأسيس سلسلة متصلة من دروس الحكم والإدارة والسياسة والدبلوماسية والحكمة وبعد النظر والتجارب، التي يبنى عليها ويستفاد منها.
فبعد اكتمال ضم الحجاز (1925م)، شرع الملك عبد العزيز في تنفيذ المرحلة الثانية من مشروعه الوحدوي والنهضوي ببدء البناء التنظيمي لمؤسسات الدولة وتشكيل الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وأنشئ في العام ذاته عدد من الإدارات والمديريات كالمعارف والصحة والمالية، كما أنشئت مديرية الشؤون الخارجية لتتولى متابعة سياسة الدولة الخارجية وتنظيم العلاقات الدبلوماسية والتنسيق مع البعثات الأجنبية الموجودة في جدة، وشُكلت من أربع شعب: «الشعبة السياسية، والشعبة الإدارية، والشعبة الحقوقية، والشعبة القنصلية»، ونُص على ارتباطها بالملك مباشرة: «تكون مديرية الشؤون الخارجية مرتبطة بالمقام الملوكي العالي رأساً، ولكنها تتلقى أوامر النيابة العامة فيما يختص بالشعبتين الإدارية والقنصلية».

* مديرية الشؤون الخارجية وارتباطها بالملك
تولى الدكتور عبد الله الدملوجي إدارتها منذ تأسيسها في سبتمبر 1925م وحتى استقالته في الموافق يونيو (حزيران) 1928م، وتعاقب على إدارتها أصالة ووكالة كل من:
الشيخ يوسف بن محمد ياسين

درس في اللاذقية ثم التحق بالأزهر ومدرسة الدعوة والإرشاد في مصر، لكنه لم يكمل دراسته بسبب ظروف الحرب، وبعد ذلك درس في مدرسة صلاح الدين في القدس ثم في معهد الحقوق في دمشق. اشتغل بالتعليم والصحافة وناهض الاستعمار، وعمل سكرتيراً لرئيس حكومة شرق الأردن. التحق بخدمة الملك عبد العزيز عام 1924م، ورافقه في رحلته إلى الحجاز ودون يومياتها. تولى تأسيس وإدارة جريدة أم القرى التي صدر أول أعدادها في 12 ديسمبر 1924م كأول وسيلة إعلام سعودية، وفي عام 1928م عين مديراً لدائرة المطبوعات والمخابرات (الإعلام) وأصبح من مستشاري الملك المقربين، ثم عمل سكرتيراً خاصاً لجلالة الملك وكلف في فترات متعددة بعمل مدير الشؤون الخارجية ثم وكيل وزارة الخارجية وعين نائباً للوزير، وتولى في عام 1930م رئاسة الشعبة السياسية في الديوان الملكي، وفي عام 1932م أصبح عضواً في مجلس الوكلاء.
كلف بعدد من المهام السياسية، وكان ضمن الوفد المرافق للملك عبد العزيز عند لقائه بالرئيس روزفلت عام 1945م.
وذكر وليم إيدي الوزير الأميركي المفوض في جدة والمترجم الوحيد الذي حضر الاجتماع المغلق بين الزعيمين، أنه راجع مسودة محضر الاجتماع مع يوسف ياسين قبل توقيعها من الملك والرئيس، وصدر في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه أمر ملكي باعتباره وزير دولة قائماً بالأعمال التالية:
1 - مستشاراً في مجلس الملك الخاص.
2 - عضواً طبيعياً في مجلس الوكلاء.
3 - رئيساً للشعبة السياسية في الديوان الملكي.
4 - سكرتيراً خاصاً لجلالة الملك.
5 - نائباً لوزير الخارجية.
وبذلك يمكن القول إن يوسف ياسين أول من حمل لقب نائب وزير الخارجية رسمياً، كما حمل لقب وزير الخارجية بالنيابة. استمر في القيام بالمهام التي أوكلت له في عهد الملك سعود وحتى وفاته عام 1962م.

الشيخ عبد العزيز بن محمد العتيقي

درس في المجمعة على يد مشايخها ثم انتقل للزبير وتابع تعليمه ثم أتم دراسته في دار الدعوة والإرشاد بالقاهرة. تنقل بين البحرين والهند وشرق آسيا وعمل بالتعليم والدعوة وكان له نشاط سياسي وإعلامي. التحق بخدمة الملك عبد العزيز عام 1925م وشارك في لجنة تسلم جدة، ثم عين مستشاراً لنائب الملك في الحجاز وعضواً في مجلس الشورى، كما عين نائباً لمدير دائرة المطبوعات والمخابرات (الإعلام)، وتولى مديرية الشؤون الخارجية بالنيابة عام 1926م.
الأستاذ فؤاد بن أمين حمزة

تلقى تعليمه في لبنان ونال شهادة دار المعلمين ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت. عمل بالتدريس ثم نال إجازة في الحقوق، ويجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية. التحق بخدمة الملك عبد العزيز عام 1926م، وتولى عدداً من المناصب منها: معاون مدير الشؤون الخارجية، عضو لجنة التفتيش والإصلاح ولجنة سن النظامات والأنظمة واللجنة التنفيذية لمعاونة النائب العام. كما عمل مستشاراً في الشعبة السياسية في الديوان الملكي. أول وكيل لوزارة الخارجية بعد إنشائها، وعضو مجلس الوكلاء. تم تعيينه وزيراً مفوضاً فوق العادة (سفير) لدى فرنسا ثم لدى تركيا، ثم عين وزير دولة منتدباً للأعمال الإنشائية والعمرانية. شارك في رئاسة وعضوية عدد من الوفود واللجان وكلف بعدد من المهام التي استمر في تأديتها حتى وفاته أواخر عام 1951م. يعتبر من الآباء المؤسسين للخارجية السعودية، كما خدم التاريخ السياسي السعودي من خلال مؤلفاته ومذكراته ووثائقه الخاصة.

(الملك) الأمير فيصل أول وزير للخارجية السعودية

استمرت المديرية في القيام بأعمال الشؤون الخارجية لمدة تزيد على الخمسة أعوام، وفي 16 ديسمبر 1930م صدر أمر ملكي بإنشاء وزارة الخارجية السعودية، إذ نشرت جريدة أم القرى في عددها رقم (315) الصادر يوم الجمعة 19 ديسمبر 1930م، بلاغاً عن تشكيل وزارة الخارجية فيما يلي نصه:
«صدر الأمر الملكي السامي بتحويل اسم مديرية الشؤون الخارجية إلى وزارة الخارجية وإسناد منصب الوزارة المذكورة إلى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل نائب جلالة الملك المعظم علاوة على النيابة العامة، وبتعيين فؤاد حمزة وكيلاً لوزارة الخارجية اعتباراً من يوم الثلاثاء 16 ديسمبر 1930م.
وقد نص الأمر الملكي على تعليمات وتفصيلات تتعلق بآليات العمل في الوزارة مما يمكن منها فهم ملامح من مدرسة الملك المؤسس في الحكم والإدارة ومنهجيته في العمل والتفويض، وتحديد الصلاحيات والمرجعيات والمسؤوليات:
«نحن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل
بناء على ما رأيناه في المصلحة العامة، أمرنا بما هو آتٍ:
المادة الأولى: يعين نائبنا ونجلنا الابن فيصل وزيراً للخارجية علاوة على النيابة العامة.
المادة الثانية: يعين فؤاد حمزة وكيلاً للخارجية.
المادة الثالثة: يظل سير الأعمال في وزارة الخارجية كما كان عليه العمل في السابق، بمعنى أنه ما كان يعرض علينا لاستصدار أمرنا فيه من الشؤون الخارجية يعرض علينا، وما كان في اختصاص الخارجية تجري المعاملة فيه بغير مراجعتنا كالسابق.
المادة الرابعة: يعين وزير الخارجية وقتاً معيناً للنظر في أمور وزارة الخارجية من كل يوم.
المادة الخامسة: الأمور المتعلقة بالخارجية ويحتاج الأمر فيها للسؤال من النيابة العامة فما كان يراد منها السؤال عن طريق النيابة العامة يحال من قبل الخارجية إلى النيابة العامة، وما كان منها محتاجاً لأخذ رأي النائب العام، فيصدر النائب العام أمره فيها بصفته وزيراً للخارجية من دون تحويل ذلك إلى ديوان النيابة.
المادة السادسة: المخاطبات الرسمية في الخارجية ترد باسم وزير الخارجية، وتصدر من الخارجية باسمه.
المادة السابعة: جميع الأختام وعناوين الأوراق التي كانت باسم مديرية الشؤون الخارجية تعتبر ملغاة اعتباراً من هذا التاريخ، والأختام والكليشهات القديمة تجمع وتوضع في صندوق مختوم وتودع في خزائننا الخاصة.
المادة الثامنة: تبلغ جميع الإدارات التي تتخابر مع الخارجية بأن ترتيب المخابرات التي توجه إليها سواء كانت برقية أو كتابية يكون على ثلاثة أنواع:
1 - المكاتبات الشخصية.
2 - المكاتبات السرية.
3 - المكاتبات العادية.
فإن كان المقصود إيصال المكاتبة إلى الوزير رأساً قبل أن تصل إلى الوزارة يمكن أن يوضع على الظرف أو البرقية كلمتا (سري أو شخصي) وعندئذ لا يطلع عليها أحد قبل الوزير نفسه.
المادة التاسعة: على نائبنا العام إنفاذ أمرنا هذا.
صدر بقصرنا في مكة في اليوم السادس والعشرين من رجب سنة ألف وثلاثمائة وتسعة وأربعين.
الختم الملكي

من هذا الأمر يتضح أن وزارة الخارجية هي أول وزارة تستحدث بصفة رسمية وحتى قبل إعلان توحيد البلاد وتسميتها المملكة العربية السعودية، وأن (الملك) فيصل هو أول من حمل لقب وزير في الحكومة السعودية، خلافاً لما يتداول من أن وزارة المالية هي أقدم الوزارات وأن عبد الله السليمان هو أول وزير، حيث لم تتحول وكالة المالية إلى وزارة المالية إلا في 13 أغسطس (آب) 1932م.
منذ ذلك التاريخ بدأت وزارة الخارجية رحلتها في تنفيذ السياسات الخارجية وتوطيد العلاقات مع الدول وإنشاء البعثات الدبلوماسية، كما قامت بخدمة القضايا العربية والإسلامية في المحافل الدولية، وأسهمت في دعم استقلال الدول الخليجية والعربية والإسلامية، ونصرة الشعوب وتقديم المساعدات الإغاثية للإنسانية جمعاء، إضافة إلى دعم الأمن والسلم والاستقرار العالمي. كما صُبغت ولعقود بشخصية وزيرها الأول (الملك) الأمير فيصل وسمته ومدرسته الدبلوماسية. كما استقطبت وخرجت كفايات وخبرات متنوعة ممن تدرجوا في السلك الدبلوماسي أو التحقوا به من قطاعات أخرى.
@ من حارة اليمن في جدة بدأت تشكيلات وزارة الخارجية

كان مقر الخارجية الرئيس في دار الحكومة بمكة المكرمة، ولها مكتب في جدة يقع في حارة اليمن وعنوانها البرقي (الخارجية).
أما تشكيلات الوزارة عند إنشائها فكانت: المكتب الخاص، والشعبة الشرقية، والشعبة الإدارية، والشعبة السياسية، والشعبة القنصلية. أما أوائل موظفيها فلم يتجاوز عددهم (15) شخصاً وهم، المعاون الأول: جميل داود المسلمي، والمعاون بمكتب جدة: علي طه، والمعاون الثاني: أسعد الفقيه، ورئيس المكتب الخاص: توفيق حمزة، والسكرتير الخاص: محمد شيخو، ورئيس الكتاب: جمال سنبل، والموظفون: يحيى أبو الخير وعبد السلام فارسي وعلي عوض ومحمد مظهر وعبد الله جلاجل ونديم الكتبي، والمحاسب: محمد جمال داغستاني.
وعن نشأة المفوضيات السعودية (السفارات) رسمياً في الخارج فكانت أولها مفوضية لندن والوزير المفوض حافظ وهبة الذي عين في 21 يوليو (تموز) 1930م، وذلك خلافاً لما هو متداول بأن مفوضية القاهرة هي الأولى، حيث كانت العلاقات السعودية مقطوعة مع مصر خلال ذلك التاريخ (1928 إلى 1936م). ولعل سبب هذا اللبس هو وجود «الوكالة العربية» في مصر، لكن شأنها كباقي الوكالات التابعة للتجار السعوديين في الخارج والتي تمثل الملك عبد العزيز والوكيل أو المعتمد هو الشيخ فوزان السابق، لكن الحكومة المصرية لم تعترف به رسمياً. وكانت مفوضية بغداد هي الثانية بعد لندن، حيث تأسست في 21 يونيو 1931م، وعين رشيد باشا الناصر قنصلاً عاماً وقائماً بالأعمال لكنه لم يباشر عمله، وفي 25 مايو 1933م عين إبراهيم بن معمر في المنصب. ثم قنصلية دمشق ونقل إليها رشيد الناصر في 11 مايو 1933م. أما مفوضية مصر فيرأسها فوزان السابق بمسمى القائم بالأعمال وكان تعيينه في أغسطس 1936م بعد استئناف العلاقات السعودية المصرية.

* نواب وزارة الخارجية منذ مرحلة التأسيس
ولتعدد مناصب وزير الخارجية (الأمير) فيصل: نائب الملك في الحجاز ورئيس مجلس الشورى ورئيس مجلس الوكلاء كما تولى وزارة الداخلية، كان منصب وكيل الوزارة له أهميته وتعاقب عليه فؤاد حمزة ويوسف ياسين. كما تولى يوسف ياسين منصب نائب الوزير رسمياً.
وبمحاولة حصر من تولى منصب الوكيل أصالة أو تكليفاً خلال الخمسة وأربعين عاماً الأولى من عمر الخارجية توصلت إلى بعض الأسماء وقد يكون هناك أسماء أخرى لم أتوصل إليها، وذلك بسبب عدم توفر المصادر الكافية!
وبتتبع ما هو متوفر من معلومات يتبين أولاً أنه كُلِف بعمل (نائب الوزير) كل من عبد الله السليمان وحمد السليمان، وذلك وفقاً لما ورد في موسوعة تاريخ الملك عبد العزيز الدبلوماسي. أما عمل (وكيل الوزارة) فقد تولاه تكليفاً وبالنيابة كل من: خير الدين الزركلي ومحمود المرزوقي وطاهر رضوان وأسعد الفقيه وعبد الرحمن البسام وعلي عوض، ومحمد الحمد الشبيلي ومحمد محتسب وإبراهيم السويل، الذي عين وزيراً للخارجية في عام 1960م، وبعد ذلك عُين رسمياً في منصب الوكيل كل من عمر السقاف ومحمد إبراهيم مسعود وتمتد تلك المرحلة حتى أواخر شهر مارس 1975م.

@ بـ100 جنية ذهب تم استئجار أو مبنى للخارجية السعودية في جدة

أما المقر الرئيس لوزارة الخارجية فقد انتقل من مبنى الحميدية في مكة إلى جدة وتعددت الروايات حول سنة الانتقال، وبينما يذكر خير الدين الزركلي بأن أول مقر شغلته الوزارة في جدة هو الطابقان الأول والثاني من أحد الأبنية في جدة، يؤكد الباحث في تاريخ جدة خالد أبو الجدايل أن المبنى الذي أشار إليه الزركلي هو بيت موسى أفندي البغدادي في حارة الشام. كما شغلت الوزارة بيت درويش في حارة البحر، يصف ابن جدة محمد درويش مشاهداته: «أرى شاباً أنيقاً متألقاً بهي الطلعة يجلس عصر كل يوم في بهو وزارة الخارجية في بيت درويش بحارة البحر يحيط به مجموعة من السياسيين منهم: يوسف ياسين وفؤاد حمزة وطاهر رضوان وخير الدين الزركلي، ويستمر هذا المجلس في تبادل الآراء والنقاش حتى آذان المغرب فيتوقفون للصلاة ويؤمهم الشيخ يوسف ياسين ويلحق بهم من موظفي الوزارة عبد السلام فارسي وجمال سنبل»، لم يكن ذلك الشاب الأنيق سوى الأمير فيصل وزير الخارجية. لكن أبو الجدايل يؤكد أن حارة البحر ليست إلا جزءاً من حارة اليمن ويؤيد قوله بوثيقة موقعة من درويش ومحمد مصطفى درويش عبد ربه بتأجير دارهم الكائنة بمحلة (اليمن) بمائة جنيه إنجليزي ذهب إلى وزارة الخارجية وأنهم تسلموا نصف قيمة الأجرة 50 جنيهاً في 1 محرم 1352هـ (مايو 1933م) من وكيل وزارة الخارجية فؤاد بك حمزة، وباقي الأجرة تدفع في أول رجب 1352هـ (أكتوبر 1933م).
* مبنى الخارجية بطرازة الإسلامي تصدرت الريال السعودية

انتقل بعد ذلك مقر وزارة الخارجية إلى بناية باطويل الواقعة على شارع المطار القديم عند مدخل العمارية (أمام مطابع الأصفهاني فيما بعد) ويبدو أن ذلك كان خلال النصف الثاني من الأربعينيات الميلادية، يصف الدبلوماسي السعودي محمود عمر شاولي مبنى الوزارة حين التحق بالعمل بها في شهر مايو 1955م وقبل أشهر من انتقالها إلى مبناها الجديد حينذاك، بأنه كان فيلا من دورين وغرفتين بالسطح وإيجاره السنوي 3 آلاف جنيه ذهب. وحين انتقل المقر إلى مبنى الوزارة الواقع أمام بحر الطين (بحيرة الأربعين) في صيف عام 1955م كان عدد موظفي ديوان الوزارة بجدة لا يتعدى 50 موظفاً وميزانيتها 21 مليون ريال. وبينما يذكر المؤرخ أمين سعيد في كتابه «تاريخ الدولة السعودية» أن مقر الوزارة انتقل إلى المبنى في عام 1952م، يظهر لي أن المقصود هو بداية تنفيذ البناء، يؤيد ذلك ما أورده الزركلي بأنه تم البدء في تنفيذ المبنى في أواخر عهد الملك عبد العزيز. ولم أتوصل بشكل دقيق إلى المقاول الذي نفذ المبنى حيث تعددت الروايات حول مقاول المشروع هل هو (عثمان أحمد عثمان) أم (أبو الفتوح) أم غيرهما؟ لكن المبنى أصبح أحد أبرز معالم جدة العمرانية وتصميمه على الطراز الإسلامي مستوحى من مبنى قصر العدل في دمشق، وتصدرت صورته العملة السعودية الورقية من فئة الريال في الستينيات الميلادية. ويصفه المؤرخ عبد القدوس الأنصاري بأنه يحتوي على: «مصعدين كهربائيين وتكييف الهواء عام للمبنى وهناك قاعة كبيرة للحفلات والاجتماعات الهامة».
مع الإشارة إلى أنه كان هناك مكتب لوزير الخارجية في الرياض يقع في فيلا بحي عليشة قرب تقاطع شارع الإمام عبد العزيز بن محمد (العصارات) مع شارع الإمام فيصل بن تركي (الخزان)، وأذكر أنني ذهبت في مطلع الثمانينيات الميلادية لمقابلة الأمير سعود الفيصل فيه.
وفي عام 1984م انتقل مقر وزارة الخارجية إلى مدينة الرياض بعد اكتمال إنشاء مبناها في حي الناصرية.
وقصة انتقال وزارة الخارجية والبعثات الدبلوماسية من جدة إلى الرياض تستحق بحثاً مستقلاً.

رواد العمل الدبلوماسي في السعودية
لعل إلقاء الضوء على سير عدد من رواد العمل الدبلوماسي رغم شح المصادر عن بعضهم يجلي الغموض حول جوانب معينة مع الإشارة، بأن هناك عدداً كبيراً من رجالات السلك الدبلوماسي السعودي الذين يستحقون أن يذكروا وتوثق سيرهم لكن بحثاً كهذا لا يمكنه الإحاطة بكل أولئك:
1 - الشيخ فوزان السابق

تتلمذ في كتاتيب بريدة ثم درس في الرياض والبحرين والعراق والهند وحصل على إجازات في العلوم الشرعية. مارس التجارة بين نجد والعراق والشام ومصر مع العقيلات وكان من رموزهم. في عام 1922م اختاره الملك عبد العزيز وكيلاً له في دمشق، وبين عامي 1925 و1926م عينه وكيلاً له في القاهرة ونظراً لتوتر العلاقات السياسية بين المملكة المصرية ومملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، مما أدى إلى قطعها في عام 1928م لم تعترف الحكومة المصرية بالوكالة التي أنشئت ولا بالشيخ السابق كوكيل للملك عبد العزيز، إلا أنه استمر في ممارسة أعماله دون اعتراف رسمي مستثمراً اتصالاته وعلاقاته الشخصية، وكان له نشاط إعلامي وجهود علمية وفكرية وحضور لافت في الأوساط الدبلوماسية في القاهرة، وتعرف إلى المستر كرين ورتب له مقابلة مع الملك عبد العزيز أسفرت عن إرسال كرين بعثة لعمل مسح عن المياه وتوصلت إلى دلائل عن وجود النفط والمعادن في المملكة، والتي انتهت بتقرير تويتشل الشهير الذي أفضى إلى توقيع اتفاقية الامتياز بين الحكومة السعودية وشركة سوكال في عام 1933م. وقد كُلف الشيخ السابق بمهام سياسية واستخباراتية متعددة وشارك في اجتماعات ومفاوضات وحمل رسائل ووقع على اتفاقيات ممثلاً للحكومة السعودية، وبعد توقيع معاهدة الصداقة السعودية المصرية واستئناف العلاقات في عام 1936م تم افتتاح المفوضية في القاهرة وتعيينه قائماً بالأعمال وقنصلاً عاماً ثم وزيرا مفوضاً ومندوباً فوق العادة، إلى أن تقاعد عام 1946م.
2 - عبد الله بن سليمان الحمدان

درس في كتاتيب عنيزة ثم انتقل إلى البحرين فالهند وعمل لدى التاجر النجدي عبد الله الفوزان كما واصل تعلمه هناك وتواصل مع البيوتات التجارية العربية الموجودة في الهند كآل فضل وآل بسام وآل زينل، وأتقن أساليب التجارة والحساب، كما مارس التجارة بين الأحساء والبحرين والهند لكنه لم يحقق نجاحاً كبيراً. التحق كاتباً في ديوان (السلطان) عبد العزيز نحو عام 1920م، واكتسب الثقة بسبب ذكائه وتعدد مواهبه وحسن تصرفه وتدبيره للأمور وفهمه الدقيق لشخصية الملك عبد العزيز وأسلوب عمله، فتدرج في البلاط الملكي وتولى إدارة المالية عام 1927م والتي تحولت إلى وكالة المالية العامة عام 1928م ثم أصبحت وزارة المالية عام 1932م. كما أسندت إليه مناصب أخرى من بينها تكليفه بعمل نائب وزير الخارجية. وعدا مواهبه الإدارية والقيادية فإن التصاقه بالملك عبد العزيز أكسبه حنكة سياسية ومهارات تفاوضية مكنته من قيادة المفاوضات مع شركة سوكال والتوقيع على اتفاقية الامتياز بأمر الملك عبد العزيز، ثم تفاوضه لرفع دخل الحكومة السعودية من عائدات النفط والذي لم توافق عليه الشركة. فعرض على الملك مقترحاً لإخضاع شركة البترول لضريبة الدخل والضرائب الأخرى، وتم اعتماد المقترح من قبل الملك، واضطرت الشركة للموافقة على دفع الضرائب وتم توقيع اتفاق بذلك عام 1951م. استمر (ابن سليمان) أو (الوزير) كما كان يطلق عليه في تأدية مهامه حتى بداية عهد الملك سعود حين طلب إعفاءه عام 1954م. لقد اختصر المؤرخ جلال كشك وصف جهود ابن سليمان بعبارته: «لعل ما فعله من أعاجيب خلال سنوات الأزمة العالمية لإبقاء جهاز الدولة يعمل، كان شفيعه في سنوات الرخاء حين تناثرت الأقاويل حوله...».

3 - حمد السليمان الحمدان

درس العلوم الشرعية والحساب في كتاتيب القصيم ثم التحق بأخيه (الوزير) عبد الله في الهند وتعلم هناك ثم عمل مع أخيه في التجارة وانتقل معه للعمل لدى الملك عبد العزيز، وتدرج في الوظائف، إذ عمل مساعداً لأخيه في وكالة المالية وعين وكيلاً لوزارة المالية وعضواً في مجلس الوكلاء عام 1932م. كلف بمهام دبلوماسية وشارك في وفود رسمية إلى اليمن عامي 1931 و1933م. قام بعمل نائب وزير الخارجية عام 1941م. صدر أمر ملكي بمنحه مرتبة وزير دولة عام 1951م، وبسبب ظروفه الصحية طلب الإعفاء من العمل عام 1956م.
4 - رشيد (باشا) الناصر بن ليلا

تلقى تعليمه في كتاتيب حائل ثم على يد عدد من علماء عصره. يجيد اللغة التركية، تولى عدداً من المناصب وكلف بمهمات في عهد إمارة آل رشيد على حائل وعين وكيلاً لهم في إسطنبول. وفد عام 1930م على الملك عبد العزيز الذي اصطفاه وكلفه بعدد من المهام، شارك في عضوية المؤتمر الوطني، كما عين عضواً في مجلس الشورى، ثم صدر في عام 1931م الأمر بتعيينه قنصلاً عاماً وقائماً بالأعمال لدى العراق لكنه لم يباشر عمله بسبب العلاقة غير الودية مع موفق الألوسي مدير الأمور (وزير) الخارجية العراقي آنئذٍ، ثم عين قنصلاً عاماً ووكيلاً معتمداً للملك عبد العزيز لدى سوريا في عام 1933م واستمر في منصبه حتى وفاته عام 1943م.
5 – خير الدين الزركلي

تلقى تعليمه الأولي في دمشق ثم في الكلية العلمانية الفرنسية (لاييك) في بيروت. اشتغل بالتدريس والصحافة والتأليف، ثم عمل في حكومة شرق الأردن، وفي عام 1934م عين مستشاراً للوكالة العربية في القاهرة والتي تحولت إلى مفوضية عام 1936م، ومثّل المملكة في الاجتماعات التأسيسية لجامعة الدول العربية. كلف بالعمل وكيلاً لوزارة الخارجية عام 1946م، وفي عام 1951م سمي وزيراً مفوضاً ومندوباً دائماً لدى جامعة الدول العربية، وكان خلال تلك المدة يتناوب العمل ويتبادل الموقع مع يوسف ياسين بين الوزارة والجامعة. وفي عام 1957م عين سفيراً في المغرب. مثّل المملكة في عدد من المؤتمرات والاجتماعات وشارك في وفود رسمية، واستمر في خدمة السياسة والتاريخ السعودي حتى وفاته عام 1976م. أصدر عدداً من المؤلفات منها: «الأعلام»، و«شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز»، و«ما رأيت وما سمعت»، و«الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز»... وغيرها، كما أن له قصائد وفرائد شعرية جمعت في ديوان الزركلي.
6 - محمود بن محمد المرزوقي

درس في مدارس الفلاح بجدة، وبدأ حياته الوظيفية كاتباً في المحكمة الشرعية، حيث كان والده الشيخ السيد محمد المرزوقي قاضياً لجدة. ثم انتقل للعمل في وزارة الخارجية في الأربعينيات الميلادية يوم كان مقرها في بيت درويش بحارة البحر (وهو نفسه من أبناء ضاحية المشورة بحارة البحر)، وتدرج في الوظائف لكنه لم يبارح جدة فقد كان جداوي الهوى، كلف بمهام إدارية متعددة بعضها كان مع الشيخ محمد إبراهيم مسعود. وورد في موسوعة تاريخ الملك عبد العزيز الدبلوماسي أنه عين في مارس 1949م وكيلاً لوزارة الخارجية بالنيابة. لكنه كسب محبة الناس أثناء توليه مسؤوليات الشعبة القنصلية لمدة طويلة نظراً لحسن تعامله مع مختلف مراجعي الوزارة.
7 - طاهر بن حسن رضوان

درس في مكة المكرمة ثم أتم دراسته في سوريا ومصر وتخرج في كلية دار العلوم بالقاهرة، عمل في الشعبة السياسية في الديوان الملكي ثم انتقل نحو عام 1945م إلى وزارة الخارجية، وكلف بعمل وكيل الوزارة في عام 1948م وخلال مدة تكليفه عمل على إصدار أول لائحة للعمل الدبلوماسي. صدر مرسوم ملكي بتعيينه وزيراً مفوضاً في القاهرة عام 1950م، ثم عين وكيلاً لوزارة الخارجية في عام 1954م. أصبح في عام 1957م مندوب المملكة الدائم لدى جامعة الدول العربية وأصبح عميداً للسفراء المندوبين لدى الجامعة واستمر حتى تقاعده عام 1991م، كما كان يعتبر عميداً للسفراء السعوديين على رأس العمل. مثل المملكة في عديد من الاجتماعات والمهمات السياسية، وعاصر فترة انتقال المقر الدائم لجامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس بين عامي 1979 و1990م بعد مقاطعة الدول العربية لمصر إثر توقيعها اتفاقية كامب ديفيد وتعليق عضويتها في الجامعة، وأشارت مصادر أنه زود الأمانة العامة للجامعة بنسخ كثير من الوثائق والملفات والقرارات الصادرة عن الجامعة، والتي لم تسمح السلطات المصرية بنقلها إلى تونس مما ساعد على استمرار عمل الجامعة في تلك المرحلة الحرجة.
8 - إبراهيم بن عبد الله السويل

درس في المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة، وأكمل تعليمه في القاهرة حيث تخرج في كلية دار العلوم نحو عام 1939م. عمل مدرساً في مدرسة تحضير البعثات، ثم انتقل للعمل في وزارة الخارجية في منتصف الأربعينيات الميلادية وتدرج في الوظائف الدبلوماسية في عدد من السفارات السعودية في الخارج، ونحو عام 1955م عاد إلى ديوان الوزارة، ثم كلف بعمل وكيل الوزارة، وفي عام 1957م عين سفيراً في العراق، وفي عهده لجأ أفراد من الأسرة الملكية الهاشمية إلى السفارة السعودية في بغداد عند قيام ثورة 1958م، ووفقاً لرواية الأميرة بديعة بنت علي بن الحسين، أن السويل استقبلهم واتصل بالملك سعود الذي وجهه بتقديم الرعاية لهم وقال له: «إنهم أمانة في رقبتك»، وبقوا في حماية السفارة السعودية لمدة شهر إلى أن تم تأمين مغادرتهم العراق. وفي ديسمبر من عام 1960م وحتى مارس 1962م، تم تعيينه وزيراً للخارجية في الوزارة التي شكلها الملك سعود إثر استقالة رئيس الوزراء (الأمير) فيصل. وسمعت من صديقه السفير أحمد بن علي آل مبارك أنه زاره بعد تعيينه وزيراً للخارجية فوجده يراجع المعاملات على كرسي جانبي في مكتب الوكيل، فقال له لم لا تقعد في مكتب الوزير فكان رد السويل: سيعود صاحبه! ونيابة عن الملك سعود، وكممثل شخصي لجلالته ترأس السويل الوفد السعودي لمؤتمر حركة عدم الانحياز الذي عقد في بلغراد خلال شهر سبتمبر 1961م وتكون الوفد من السفراء عبد الرحمن الحليسي وجميل حجيلان والمستشارين محمد شرارة وعوني الدجاني، أما سكرتارية الوفد فضمت إبراهيم السلطان وطه الرشيد الدغيثر ومحمد حسن فقي ومحمد سمان ومحمد صالح يحيى.
في مايو 1962م تم تعيينه مستشاراً خاصاً لجلالة الملك ورئيساً للشعبة السياسية في الديوان الملكي، ثم عين في نوفمبر من العام نفسه وزيراً للزراعة، وبين عامي 1964 و1975م أصبح سفيراً لجلالة الملك في واشنطن. وفي عهد الملك خالد (1975م) صدر أمر ملكي بتعيينه مستشاراً في الديوان الملكي وحتى وفاته عام 1977م، وصلى على جنازته في الجامع الكبير بالرياض (الإمام تركي حالياً) كبار الأمراء والمسؤولين ظهر يوم الجمعة 20 مايو 1977م، ونقل (الأمير) سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض تعازي الملك خالد في وفاة الشيخ السويل إلى أسرة الفقيد خلال زيارته لمنزلهم. ويعتبر الشيخ السويل من رجالات الدولة السعودية وسياسييها الكبار الذين عاصروا مراحل بناء الدولة وتحولات المنطقة والعالم، وعملوا داخل الدهاليز السياسية في الديوان الملكي ومجلس الوزراء وديوان وزارة الخارجية والسفارات، وكان لديهم القدرة على لجم الرغبة في الظهور والبعد عن التصريحات أو تدوين المشاهدات ونشر المذكرات، لذا فقدنا صفحات مهمة من تاريخ السياسة السعودية.

9 - محمد الحمد الشبيلي

تلقى تعليمه الأولي في عنيزة ثم أكمل دراسته في البصرة. التحق بالعمل كاتباً في الديوان الملكي نحو عام 1930م، ثم انتقل إلى وزارة الخارجية وعين نائباً للقنصل السعودي في البصرة في عام 1942م وأصبح بعد ذلك القنصل العام في عام 1949م. نقل في عام 1957م مستشاراً في وزارة الخارجية وكلف بعمل وكيل الوزارة ثم عين سفيراً لدى باكستان. صدر أمر ملكي بتعيينه وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية في عام 1962م واعتذر عن عدم تولي المنصب، كما تشير سيرته إلى اعتذاره عن عدم تولي عديد من المناصب ومن بينها رئيس التشريفات الملكية ورئيس ديوان ولي العهد والتماسه البقاء في عمله الدبلوماسي. في عام 1964م عين سفيراً لدى الهند ثم عاد سفيراً في بغداد عام 1976م، تنقل بعد ذلك سفيراً لدى أفغانستان 1972م ولدى ماليزيا 1978م.
كان ظاهرة إنسانية ودبلوماسية وإدارية فريدة، وأسطورة في الكرم والسخاء ومكارم الأخلاق، اختصر ذلك الملك خالد بوصفه له: «سفير بلا نظير». روي عن قصصه وعجائبه الكثير مما لا يكاد يصدق، لم يكن رجل دولة فحسب؛ بل كان مدرسة دبلوماسية نادرة، وقوة ناعمة سعودية تمشي على الأرض تخرج فيها مسؤولون ووزراء وتأثر بها علماء وزعماء، لقد كان ماركة دبلوماسية متفردة اسمها (أبو سليمان).

10 - عبد الرحمن المحمد البسام

تلقى تعليمه في مكة المكرمة ثم درس الحقوق في جامعة فؤاد الأول. التحق بوزارة الخارجية وتدرج في السلك الدبلوماسي وعمل في عام 1945م في الوفد الدائم لدى الأمم المتحدة ومثل المملكة في عدد من المؤتمرات الدولية. عين سفيراً للمملكة لدى باكستان عام 1955م، وفي عام 1957م كلف بالعمل وكيلاً لوزارة الخارجية، ثم عين سفيراً لدى تونس في عام 1958م وأصبح عميد السلك الدبلوماسي كما ارتبط بعلاقة خاصة بالرئيس الحبيب بورقيبة، وفي عام 1975م عين سفيراً لدى اليونان إلى أن توفي فيها عام 1977م.
11 - علي عوض
الشيخ علي بن مصطفى عوض: تلقى تعليمه مكة المكرمة وتخرج في المعهد العلمي السعودي ثم التحق بالعمل في وزارة الخارجية في مطلع الثلاثينيات الميلادية ويعتبر من أوائل موظفيها حيث عمل كاتباً، ثم انتقل للعمل في مكتب الشيخ يوسف ياسين ورافقه في عدد من المهمات، وتدرج في السلك الدبلوماسي حيث تنقل بين السفارات السعودية في بيروت والقاهرة، عين بعد ذلك قائماً بالأعمال في السفارة السعودية في باريس وعندما قطعت العلاقات السعودية الفرنسية بسبب العدوان الثلاثي في شهر أكتوبر من عام 1956م عاد للعمل في الديوان العام، وكلف بعمل وكيل الوزارة، وتشير سيرته المنشورة في معجم السفراء السعوديين إلى تقاعده عام 1960م ثم أعيدت خدماته عام 1961م، وتنقله بين عدد من السفارات من بينها مقديشو ودمشق وتونس.
12 - محمد عبد القادر محتسب

درس في لبنان ثم التحق بوزارة الخارجية في الأربعينيات الميلادية وعمل في السفارة السعودية في أميركا إبان تولي أسعد الفقيه السفارة (1945 إلى 1954م)، ثم عاد للعمل مستشاراً في ديوان الوزارة بجدة، وفي عام 1957م صدر أمر ملكي بمنحه درجة وزير مفوض ثم كلف بعمل وكيل وزارة الخارجية، وذكر الوزير هشام ناظر أنه بعد عودته من البعثة عام 1958م، ذهب لوزارة الخارجية وقابل وكيلها محمد محتسب الذي قال له: «والله يا هشام نحن في الخارجية ليس لدينا أي وظيفة شاغرة عليك أن تبحث في مكان آخر...».، وقد تكون رواية هشام ناظر من الروايات القليلة المدونة التي تؤكد تولي محتسب منصب وكيل وزارة الخارجية. إلا أن المؤكد أيضاً أنه عمل بعد ذلك سفيراً لجلالة الملك في عدد من الدول منها إندونيسيا وكندا والنمسا.
13 - أسعد الفقيه

يعتبر من الرعيل الأول الذين التحقوا بالعمل في وزارة الخارجية في أوائل الثلاثينيات الميلادية وعمل بوظيفة معاون ثان، وفي عام 1936م نقل إلى مفوضية بغداد ثم عين وزيراً مفوضاً لدى العراق عام 1942م، نقل بعد ذلك وزيراً مفوضاً في واشنطن عام 1945م، وأصبح أول سفير سعودي لدى الولايات المتحدة الأميركية في عام 1948م ومثل المملكة في اجتماعات الأمم المتحدة. في عام 1955م عين مفتشاً للسلك الدبلوماسي، وكلف بعد ذلك بعمل وكيل وزارة الخارجية. وفي عام 1958م عين سفيراً لدى اليابان

14 - عمر بن عباس السقاف

درس في المدينة المنورة ثم في مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة وكان من ضمن معلميه الأستاذ إبراهيم السويل الذي سيصطفيه فيما بعد وكيلاً دائماً لوزارة الخارجية. تخرج في جامعة بيروت الأميركية ثم التحق بوزارة الخارجية عام 1948م وتدرج في السلك الدبلوماسي وتنقل موظفاً بين السفارات السعودية لدى باكستان وإندونيسيا وبريطانيا، ثم سفيراً في الحبشة في عام 1957م. كما كلف بعمل مساعد وكيل الوزارة عام 1958م، ثم حمل لقب الوكيل الدائم لوزارة الخارجية في عهد وزيرها إبراهيم السويل عام 1960م، وحسب ما اطلعت عليه فإنه الوحيد الذي حمل هذا اللقب، حتى عين وزير دولة للشؤون الخارجية في أبريل (نيسان) من عام 1968م، ثم أصبح في مايو من العام نفسه عضواً في مجلس الوزراء. رأس وشارك في وفود ومؤتمرات عدة ونقل رسائل الفيصل إلى قادة العالم، ومثل المملكة في اجتماعات وزراء الخارجية والأمم المتحدة. شهدت فترة توليه المنصب ذروة الصراع العربي الإسرائيلي وعاصر حرب أكتوبر وقرار حظر تصدير النفط. عقد اجتماعات متعددة مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأشهر مدافعاً عن الحق العربي.

في الساعة السابعة إلا ربع من مساء يوم الأربعاء 6 نوفمبر 1974م وصل وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر إلى مطار الرياض الدولي قادماً من القاهرة، وكان في استقباله الوزير عمر السقاف الذي عقد معه اجتماعاً في قصر الضيافة، ثم صحبه لمقابلة الملك فيصل في قصر الرئاسة (قصر أو ديوان رئاسة مجلس الوزراء الواقع في الجهة الجنوبية من

برج مياه الرياض وإلى الشرق من القصر الأحمر عند التقاء شارع الوزير مع شارع الظهيرة بحي المربع، وهو القصر الذي وقع فيه الاعتداء على الملك فيصل بعد ذلك التاريخ بعدة أشهر). استقبل الملك الوزير الأميركي في الساعة الثامنة وغادر كيسنجر الرياض في العاشرة من مساء اليوم نفسه إلى الأردن.

لم يكن ذلك الاجتماع هو الأول بين السقاف وكيسنجر لكنه كان الأخير في سلسلة مفاوضات شاقة لإيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي. استمر السقاف في أداء مهامه كالعادة ثم سافر إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومن على منبرها كانت مرافعته الأخيرة عن قضية فلسطين، وفي يوم الخميس 14 نوفمبر 1974م تعرض لجلطة دماغية توفي على أثرها في مقر إقامته بفندق «وردوف أستوريا» في نيويورك، وفور إذاعة النبأ تلقى الديوان الملكي السعودي سيلاً من برقيات التعازي من قادة ووزراء خارجية دول العالم وأمناء المنظمات الدولية والسفراء والمسؤولين. ووفاء بوفاء، ونيابة عن جلالة الملك كان (الأمير) فهد بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية وعدد من الأمراء والوزراء وكبار رجالات الدولة في استقبال جثمان الفقيد الذي وصل في الساعة الثامنة من صباح يوم السبت 16 نوفمبر 1974م إلى مطار جدة الدولي على متن طائرة أميركية خاصة يرافقه روي أثرتون وكيل وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط مندوباً عن الحكومة الأميركية، وكانت الطائرة قد توقفت للتزود بالوقود في أحد القواعد العسكرية بإسبانيا وصعد إليها سفير جلالة الملك في مدريد الشيخ ناصر المنقور يرافقه الموظف في السفارة وقتذاك الأستاذ محمد السليمان الحمد - زوج ابنة السقاف والذي عين فيما بعد رئيس المكتب الخاص للملك فهد - ورافق الجثمان إلى جدة، أسرة الفقيد أقلتها طائرة خاصة من بيروت إلى جدة بأمر من الملك فيصل، وبعد أن تقبلوا العزاء من كبار المسؤولين ومندوب الحكومة الأميركية، أقلت طائرة سعودية خاصة الجثمان إلى المدينة المنورة حيث صلي عليه في المسجد النبوي ودفن في البقيع. يعد السقاف من أبرز خريجي مدرسة الفيصل الدبلوماسية، ومن أوفى منسوبي مدرسة الصمت، الذين شهدوا الخلفيات وشاهدوا التحولات وشاركوا في الاجتماعات المغلقة فاطلعوا على الأسرار، لكنهم لم يدونوا مذكرات أو ينشروا سيراً أو يبوحوا بما لديهم من معلومات فرحلت معهم صفحات التاريخ.

15 - محمد إبراهيم مسعود

درس في مدارس الفلاح بجدة ثم في كلية التجارة بالجامعة الوطنية في بيروت، ويتحدث اللغتين الإنجليزية والفرنسية. عمل بالتدريس، ثم بدأ وظائفه الحكومية كاتب شفرة في مكتب المعادن والأشغال العمومية في عام 1942م التابع لوزارة المالية، وبين عامي 1944 و1957م أُلحق بأمر من الملك عبد العزيز كمستشار عربي وضابط اتصال في السفارة الأميركية بجدة، ثم عين مفتشاً للسلك الدبلوماسي في وزارة الخارجية، وفي عام 1959م عين وزيراً مفوضاً في بغداد. حصل على مرتبة سفير وكلف بعمل وكيل وزارة الخارجية بالنيابة عام 1960م. وفي عام 1968م عين وكيلاً للخارجية، وصدر الأمر الملكي بتعيينه على المرتبة الممتازة في 21 أغسطس 1971م. خلال تلك السنوات كان الشيخ مسعود من أبرز وجوه الخارجية السعودية من خلال رئاسته ومشاركته في الوفود الرسمية وإيفاده مبعوثاً خاصاً لجلالة الملك وتكليفه بمهمات خاصة، وفي يناير 1971م شكل وفد سعودي كويتي مشترك برئاسة الأمير نواف بن عبد العزيز المستشار الخاص لجلالة الملك والشيخ صباح الأحمد الجابر وزير الخارجية الكويتي لزيارة إمارات الخليج العربي (أبوظبي والبحرين وقطر ودبي والشارقة وعجمان ورأس الخيمة وأم القوين والفجيرة) لتقريب وجهات النظر لقيام اتحاد بينها بعد إعلان بريطانيا عزمها على الانسحاب من الخليج ومنح تلك الإمارات استقلالها، وكان الرأي العام العربي ينتظر تصريحات المتحدث الرسمي للوفد المشترك الشيخ محمد إبراهيم مسعود عن جهود الوفد ونتائج جولاته المكوكية واجتماعاته بحكام إمارات الخليج التسع لقيام اتحاد بينها، والذي انتهى بإعلان قيام دولة الإمارات العربية المتحدة وإعلان استقلال قطر والبحرين كدول مستقلة في ديسمبر 1971م. بعد وفاة الوزير عمر السقاف صدر أمر ملكي بتعيينه وزير دولة للشؤون الخارجية بالنيابة ثم عين في أكتوبر 1975م وزير دولة وعضواً في مجلس الوزراء حتى تقاعده في أغسطس 1995م، وخلال تلك المدة استمر في أداء المهام السياسية ونقل الرسائل الملكية والمشاركة في المجالس والوفود واللجان، واختير عضواً في (اللجنة العليا لوضع نظام الحكم الأساسي ونظام مجلس الشورى ونظام المقاطعات) والمشكلة بالأمر الملكي الصادر في 19 مارس 1980م.
دور الخارجية السعودية في دعم استقلال الدول العربية
لقد كانت الخمسة وأربعين عاماً الأولى من عمر الخارجية السعودية مرحلة بدايات بناء الدولة وما صاحبها من تطورات، إضافة إلى تشكل نظام عالمي جديد بعد الحرب العالمية الثانية وكانت المملكة العربية السعودية ممثلة بوزير خارجيتها (الملك) الأمير فيصل من الدول المؤسسة لهيئة الأمم المتحدة عام 1945م، كما أعيدت صياغة المشهد الإقليمي فتأسست جامعة الدول العربية في العام نفسه، ولم تنل غالبية الدول العربية استقلالها حينذاك؛ فسعت المملكة العربية السعودية من خلال وزارة خارجيتها إلى دعم استقلال الدول العربية في المحافل الدولية، كما سعت إلى مناصرة قضية الشعب الفلسطيني، وبدأ الصراع العربي الإسرائيلي ثم بدأ المد الثوري يجتاح الدول العربية، مما أوجد حالة من عدم الاستقرار في العالم العربي، علاوة على أن الحرب الباردة تدور رحاها بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة، والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى، كما تبنى الملك فيصل دعوة التضامن الإسلامي وتأسست منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1969م، وكانت آخر الملفات الكبرى لتلك المرحلة محاولات إيجاد حل عادل للصراع العربي الإسرائيلي بعد حرب أكتوبر 1973م وقرار حظر النفط المصاحب لها، فقد توفي وزير الدولة للشؤون الخارجية السيد عمر السقاف في نيويورك وهو يشارك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشة هذه القضية في نوفمبر 1974م، تلى ذلك اغتيال الملك فيصل وهو يستقبل في مكتبه وزير النفط الكويتي في مارس 1975م، وبذلك طويت فصول لم يدون أكثرها من تاريخ الوزارة المدافعة عن الحقوق العربية والإسلامية والساعية إلى دعم الأمن والسلم في العالم.
* سعود الفيصل وزيراً للخارجية بعد 6 شهور من تولي الملك خالد الحكم

تولى الملك خالد مقاليد الحكم في 25 مارس 1975م، وأصدر يوم 28 مارس 1975م أمراً ملكياً حمل الرقم
(أ-52) ونص على أنه: «بناءً على اقتراح رئيس مجلس الوزراء يستمر جميع أعضاء مجلس الوزراء الحاليين في مناصبهم»، كما أصدر ثلاثة أوامر أخرى بتاريخ 29 مارس 1975م حمل الأول رقم (أ - 53) ونصت فقراته على تعيين: «الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ووزير الداخلية نائباً أول لرئيس مجلس الوزراء، والأمير عبد الله بن عبد العزيز رئيس الحرس الوطني نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء»، والثاني برقم (أ - 54) ونص على تعيين: «الأمير نايف بن عبد العزيز وزير دولة للشؤون الداخلية وعضواً في مجلس الوزراء»، والثالث برقم (أ - 55) ونص على تعيين الأمير سعود الفيصل وزير دولة للشؤون الخارجية وعضواً في مجلس الوزراء»، وفي أكتوبر من العام نفسه أعيد تشكيل مجلس الوزراء السعودي وأصبح الأمير نايف وزيراً للداخلية والأمير سعود وزيراً للخارجية.
استكمل سعود الفيصل فصولاً جديدة في تاريخ الخارجية السعودية، وظلت القضية الفلسطينية من أولويات السياسة الخارجية السعودية، إلا أن المرحلة شهدت اضطرابات وتحولات عربياً وإقليمياً ودولياً، فمن الحرب الأهلية اللبنانية (1975م) إلى انشقاق الصف العربي بسبب توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد (1978م) إلى الثورة الإيرانية ثم الغزو السوفياتي لأفغانستان (1979م) فالحرب العراقية الإيرانية (1980م) مع استمرار الحرب الباردة والصراعات والنزاعات في أكثر من مكان، ثم انهيار المعسكر الشرقي
(1989م) فالغزو العراقي للكويت (1990م) وتفكك الاتحاد السوفياتي (1991م) ثم النزاع في البوسنة والهرسك (1992م)، وما صاحب عقد التسعينيات من أزمات، فاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (2001م) ثم الاحتلال الأميركي للعراق (2003م) ومخططات الفوضى الخلاقة وظاهرة الإرهاب بعد ذلك، وصولاً إلى ثورات الربيع العربي (2010م)، وغير ذلك من القضايا التي يطول شرحها والتي اختصرها الأمير سعود الفيصل في تصريحه لصحيفة النيويورك تايمز عام 2009م: «لم نشهد سوى أوقات شدة وأزمات... ولا نتوقع إلا أزمنة صراعات...».!

وزارة خارجية العرب
ورغم كل تلك الأجواء المضطربة والمراحل العصيبة، فإن الحكومة السعودية جابهت تلك الأزمات من خلال سياستها الهادئة ودبلوماسيتها الفاعلة، وحكمة قيادتها ودعمها لكل جهد يدعم استقرار المنطقة، وعملت مع شقيقاتها على تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية (1981م)، وإنهاء الحرب العراقية الإيرانية (1988م)، وإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية وتوقيع اتفاق الطائف (1989م)، وتحرير الكويت من الغزو العراقي (1991م)، ثم انتفضت في حربها على الإرهاب، والوقوف في مواجهة مخططات استهداف العالم العربي.
أما الوزارة فقد كانت وزارة للخارجية العربية، تدافع عن القضايا والمصالح العربية، وتدعم مواقف الدول العربية، وتسعى إلى تحقيق أمن واستقرار المنطقة والعالم، تأكيداً لمبادئ السياسة السعودية الثابتة منذ عهد الملك عبد العزيز.
الأمير سلطان بن عبد العزيز أبرز من تولي الخارجية بالنيابة

أما على صعيد تشكيلات الوزارة وآليات عملها الداخلية بعد عام 1975م، فقد تطورت، وبرزت وجوه دبلوماسية جديدة، نقلت العمل الدبلوماسي السعودي إلى آفاق أرحب، مما يتطلب بحثاً وتوثيقاً لهذه المرحلة وما تلاها، وللجوانب الأخرى التي لم يتم التطرق لها في هذا البحث، غير أنه من المهم الإشارة إلى الوزير الذي ينوب عن وزير الخارجية في حال غيابه وبنص النظام: «النيابة عن الوزير لا تكون إلا لوزير آخر وبموجب أمر يصدر من رئيس مجلس الوزراء»، ونظراً لكثرة مهمات ورحلات الوزير خارج المملكة، فإن أبرز من تولى منصب وزير الخارجية بالنيابة طوال فترة تولي الأمير سعود، هو الأمير سلطان بن عبد العزيز.

من الوزير الثالث للخارجية السعودية؟
إلا أن هناك تساؤلاً ما زال مطروحاً، وهو من كان وزير الخارجية خلال الستة أشهر التي تولى فيها الأمير سعود الفيصل منصب وزير دولة للشؤون الخارجية (مارس إلى أكتوبر 1975م)؟ حيث إن موقع وزارة الخارجية الرسمي على شبكة الإنترنت وجميع المصادر الأخرى تشير إلى أن الأمير سعود الفيصل هو الوزير الثالث للخارجية السعودية بعد الملك فيصل والشيخ إبراهيم السويل، وحيث إن النظام الذي يحكم هذا الموضوع هو نظام مجلس الوزراء الصادر بالمرسوم الملكي رقم (380) وتاريخ 22-10-1377هـ الموافق 11-5-1958م، والذي نصت المادة (السابعة) منه - بعد أن عُدلت - على أن «مجلس الوزراء هيئة نظامية يرأسها جلالة الملك وتعقد اجتماعاتها برئاسة جلالته أو نائب رئيس مجلس الوزراء...».، وحيث إن الأمر الملكي رقم (أ-52) - الذي أصدره الملك خالد - نص على أن «يستمر جميع أعضاء مجلس الوزراء الحاليين في مناصبهم»، وهذا لا يشمل رئيس المجلس، إذ هو محدد بنص المادة (السابعة) من النظام الآنف ذكره، ولا نواب رئيس المجلس الذين صدر أمر ملكي مستقل بتعيينهم برقم (أ-53)، وحيث إن المرسوم الملكي رقم (27) الذي أصدره الملك فيصل عند توليه الحكم (2 نوفمبر 1964م)، نص على أن: «تبقى الوزارة الحالية بتشكيلها الحاضر» والتي كان الملك فيصل يرأسها ويتولى فيها منصب وزير الخارجية، مما يعني أن رئيس مجلس الوزراء استمر وزيراً للخارجية، وبما أنه لم تتم إعادة تشكيل المجلس طوال فترة حكم الملك فيصل (1964 إلى 1975م) رغم تعيين وزير دولة للشؤون الخارجية وعضواً في مجلس الوزراء، فهل يمكن القول إن الملك خالد احتفظ بمنصب وزير الخارجية في ضوء توليه منصب رئيس مجلس الوزراء؟ أي أن الملك خالد حمل حقيبة وزارة الخارجية ولم يحمل لقب الوزير، وذلك مثلما كان الحال بالنسبة للملك فيصل بعد توليه الحكم، إذ لم يُذكر اسمه أو يعمم كوزير للخارجية كونه ملكاً ورئيساً لمجلس الوزراء. وفي ضوء ما تقدم، هل تتبنى وزارة الخارجية دراسة هذا الموضوع؟ ومن ثم تحديث قائمة وزراء الخارجية السابقين لتكون كالتالي:
(الملك) الأمير فيصل بن عبد العزيز (ديسمبر 1930 إلى ديسمبر 1960م)

الشيخ إبراهيم السويل (ديسمبر 1960م إلى مارس 1962م)

الملك فيصل بن عبد العزيز (مارس 1962 إلى مارس 1975م)

الملك خالد بن عبد العزيز (مارس 1975 إلى أكتوبر 1975م)

الأمير سعود الفيصل (أكتوبر 1975 إلى أبريل 2015م)

الأستاذ عادل الجبير (أبريل 2015م إلى ديسمبر 2018م)

الدكتور إبراهيم العساف (ديسمبر 2018 إلى أكتوبر2019م)

الأمير فيصل بن فرحان (أكتوبر 2019م إلى الآن)

*كاتب وباحث سعودي



سلافوي جيجك: إنشاء دولة يهودية هو وضع نهاية لليهودية كدينٍ

سلافوي جيجك
سلافوي جيجك
TT

سلافوي جيجك: إنشاء دولة يهودية هو وضع نهاية لليهودية كدينٍ

سلافوي جيجك
سلافوي جيجك

يكتب سلافوي جيجك في كلّ شيء، وعن كلّ شيء، يتحمّل كلَّ التُهم التي تجعله منعوتاً بالخروج عن السياق، وفيلسوفاً أنزل الفلسفة إلى درك اليومي، وجرّدها من أسلحتها المتعالية، وعرّض الأفكار إلى سوء الظن دائماً.

اشتغل في السياسة بوازعٍ من شهوة المزاج الشخصي، والشغف بالمغامرة، مثلما اشتغل بالآيديولوجيا من منطلق أوهام الشيوعي المتمرد الذي لا يثق كثيراً ببداهات الصراع الطبقي، وكراهية الرأسمالية، حتى بدا وكأنه يصدّق حكايات الساحر الأغريقي الذي يؤمن بالنهايات الميتافيزقية للعالم، كما اشتغل في علم النفس بوصفه ممارسات في التطهير والاعتراف، وفي تخفيف حدّة التوتر الليبدوي، فعمد إلى استعارة كل الأدوات العيادية من جاك لاكان لكي يعرف أن هذا العلم المخادع يربط بين أزمة الجنس وأزمات الكينونة والجسد والثورة، ويسوّغ الحديث عن المخفي من أخطاء الحروب والديكتاتوريات والعنف، وتحت يافطة أن العيادي هو أنموذج الكائن الغربي، الذي يعاني من أمراض طبقية وسياسية وجنسية ووجودية، وأن علاقته بالعيادة تتحوّل إلى مجال للاعتراف، وللتنفيس عن طاقات مكبوتة، رغم معرفته بأن الكائن الواعي هو الوحيد الذي يمكنه ممارسة الكبت، والعيش مع التباسات اللاوعي الجمعي، وربما يخضع له، بوصفه توهماً بحيازة سلطة الإخفاء، وهي سلطة غير مرئية...

حميد دباشي

لكن الأخطر في اشتغالات جيجك هو شعبويته، وربما استعراضيته، فكثيراً ما يدعونا إلى ممارسات سقراطية، يجعل من الشارع منصته، ومن الحكمة خطاباً يومياً، ومن السياسة مجالاً للسخرية، ومن النكتة والكاريكاتير عتبات رمزية لفضح «المسكوت عنه» في الحروب القبيحة، وفي السياسات الأكثر قبحاً، ولإدانة ما يسمى بـ«المجتمع الدولي» وتعرية انتهازيته، وسكوته عن الأخطاء الكبرى التي تقود العالم إلى الكارثة، حيث يواصل سؤاله النقدي مع رعب العالم إزاء الخراب الآيكولوجي، فتبدو كتابته عن هذا الملف أشبه بالبحث عن شفرات للتطهير، بالمعنى الأخلاقي، أو المعنى الثقافي أو المؤسساتي، أو حتى المعنى «الشوارعي».

فهو يؤمن بأن تحديات «التلوث» و«النفايات» يمكنها أن تُدمّر العالم أكثر من الدمار النووي، وبهذا يسعى إلى تكريس شعبويته عبر اصطناع المزيد من المنصات في وسائل التواصل الاجتماعي، لكي يكون فيها سقراطياً، خطيباً آيكولوجياً، واعظاً بضرورة حماية المناخ والبيئة ومواجهة الاحتباس الحراري، ومنع صناعة الأسلحة النووية، والدعوة إلى الطاقة الخضراء، بوصفها طاقةً أكثر إنسانيةً، وصالحة لجعل الإنسان يثق بالطبيعة. فالحرب البيولوجية قد تكون هي الحرب المقبلة، إن كانت على شكل جائحة «كوفيد - 19»، أو عبر مظاهر المناخ المُهدد بالتلوث وتغوّل درجات الحرارة، أو عبر مظاهر استشراء العنف الداخلي للجماعات الهامشية، أو عبر احتجاجات شعبيّة ومنازعات اجتماعيّة وآيديولوجية في جميع أنحاء العالم، قد تترافق معها بوادر «حرب باردة جديدة».

إدوارد سعيد

هذا العنف، أو صورة الحرب المُهدِدة ليست بعيدةً عن الصراع السياسي الدولي، ولا عن طبيعة إعادة إنتاج «الثقافات المتعالية». فجيجك يتحدث عن علاقة العنف والكراهية بالآيديولوجيا، ومن منطلق الفكرة التي تؤكد على هوية ما تُنتجه «المركزية الأوروبية» في مختبراتها الآيديولوجية، وتمثلاتها في صيانة أنموذجها المتداول، عبر توصيفه كمواطن عالمي، وتوصيف قوته المسؤولة عن صناعة الحضارة والمستقبل. وعلى الآخرين أن يصدّقوا هذه الحكاية التي لم تكن بعيدةً عن تاريخ الفلسفة الأوروبية، فكانط كان عنصرياً في عديد أفكاره حول «اللون والمكان» وهيغل كان يؤمن بـ«المواطن الأوروبي» ونيتشه كان يضع إنسانه المتعالي نظيراً لهذا المواطن، وحتى هيدغر الفينومينولوجي أعطى للأوربة توصيفاً يربطها بالحضارة، وأن الغرب الذي يملك القوة، يمكنه أن يجعل المعرفة جزءاً من مفهوم الحضارة، ومن القوة المندفعة نحو السيطرة على العالم.

وأحسب أن مواقف جيجك من الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وحتى موقفه إزاء العدوان الإسرائيلي على غزة ليست بعيدة عن سرائر تلك النزعة المركزية، وعن حساسيتها، وربما عن قلقه إزاء طبيعة المتغيرات التي يمكن أن تتضخم مع تلك الصراعات، والتحوّل إلى مهددات، وإلى أشكال معقدة لسرديات حروب لم يتحمّلها الأوروبي، صانع المتعاليات الاستشراقية.

أزمة الأوروبي مع المركزية ليست بعيدةً عن علاقته بذاكرة الخطيئة، وأن دفاعه المستميت عنها يقوده دائماً إلى ذاكرة التطهير، وإلى ما أسسته من أوهام ميتافيزقية، وأحسب أن هذا هو ما دفع الكاتب الأميركي حميد دباشي إلى السخرية من هذه المركزية بالقول: «يعاني الأوربيون من النزعة الأوروبية قطعاً، كما أن الملا نصر الدين ظنّ بأن الموقع الذي ثبّت فيه لجام بغلته هو مركز الكون» (حميد دباشي/ هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟).

حديث المركزية الأوروبية، أو الغربية بمعنى أدق فتح أفقاً لحديث يتعلق بنقد الاستشراق، ولطبيعة ما يُثيره من أسئلة جديدة، تتجاوز نظرات إدوارد سعيد وفرانز فانون وغاياتري سبيفاك وغيرهم، ليس لأن «الاستشراق» خطاب زمني وتاريخي، بل لأن ما جرى ويجري جعل من الاستشراق قاصراً عن توصيف الصراع، والدفع باتجاه مراجعة أكثر شمولاً لمفاهيم معقدة مثل العولمة والأمركة والهيمنة، وهي ممارسات سياسية واقتصادية وآيديولوجية، تنطلق من فكرة المركزية، وتؤسس لها أجهزة صيانية تقوم على العنف والاغتيال، وعلى العقوبات، وعلى استنزاف الثروات، مثلما تقوم على المركزية المعلوماتية والإعلامية، وعلى تخليق «صور ذهنية» عن تلك المفاهيم، بوصفها جزءاً من الصور الذهنية عن سيطرة المتعالي.

أكد حميد دباشي هذا الأمر، عبر نقد تلك الأطروحات بالقول «إن ما يوحّد كلاً من جيجك وليفيناس وكانط هي فلسفة التعميم الذاتية، فهي تستند عندهم دائماً على نفي قدرة الآخرين على التفكير النقدي أو الإبداعي من خلال تمكين وتفويض وتخويل أنفسهم للتفكير بالنيابة عن العالم» (الفيلسوف سلافوي جيجك والقضية الفلسطينية - جعفر هادي حسن).

آراء حميد دباشي أثارت عصفاً فكرياً حول «المركزية الأوروبية» دعت سلافوي جيجك إلى الرد العنيف، بقوله «إن دباشي يريد فتح موضوع قديم، جديد، وهو إشكالية مركزية العقل الأوروبي» (علي سعيد: دباشي وجيجك والسؤال المستفز: هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟) وكأنه بهذا الرد يرفض القبول بوجهات نظرات «الشرق» الساخط على مركزية الغرب، وعلى أنموذجه الأوروبي.

تظل مراجعة فكرة المركزية الأوروبية موضوعاً إشكالياً، لأن مجادلتها ليست خاضعة بالضرورة إلى قياس قهري محكوم بعقدة المتعالي التاريخي، بل يتطلب الأمر وضعها في سياق ظروفها التاريخية، ومقاربتها من منطلق تمثيل الثنائية الملتبسة لـ«الأنا والآخر» بوصف الآخر جزءاً من تلك المركزية، ويملك تاريخاً ضاغطاً علينا، بدءاً من حروبه الصليبية، إلى حروبه التبشيرية، إلى حربه الآركيولوجية من خلال حملات الآثار في عدد من البلدان الشرقية، وصولاً إلى حقبة الاستعمار والاحتلال وما رافقها من عنف وتطهير إثني وهوياتي، وليس انتهاءً بفرضية الهيمنة الثقافية عبر الجغرافيا السياسية والاقتصادات التابعة والاستشراق بأقنعته المتعددة.

كما أن «الأنا» ليست بريئةً، وليست هي الضحية دائماً، فبقدر رثاثتها التاريخية وضعف أدواتها، وتشظي هويها، فإنها بدت أكثر التباساً في إطار أنساق حاكمة، صنعها الآخر أيضاً، وفرضها في سياق التداول كموجهات لتوصيف هامشية «الأنا» وعزلتها، عبر تأطيرها في اختراعات جيوسياسية مثل «العالم الثالث، الشرق الأوسط، الشرق الإسلامي، الدول النامية».

العالم لم يعد بحاجة إلى فلاسفة يفكرون على طريقة إيمانويل كانط، لكنه أيضاً يحتاج فلاسفة يفكرون بطريقة جيجك ودباشي وإدوارد سعيد

العالم ليس بريئاً

صحيح أن العالم لم يعد بحاجة إلى فلاسفة يفكرون على طريقة إيمانويل كانط، لكنه أيضا بحاجة إلى فلاسفة يفكرون بطريقة جيجك ودباشي وإدوارد سعيد، ليس لحساب تقعيد التفكير الثوري، بل لجعل «اللابراءة» مُحرضاً على التمرد، وعلى مواجهة تضخم الأقوياء من الذين يُفكّرون بصناعة «المراكز» المُستَبدة.

الجدل هو البراءة يتحمل مراجعات مفتوحة، منها ما يتعلّق بمناقشة المركزيات، والموقف من القضايا الإشكالية، مثل الموقف من «السامية» التي جعلها «العقل الصهيوني» أشبه بـ«الخطيئة الكبرى» لتسويق مفاهيم عن العنف والكراهية، وعن التعالق المريب بين التاريخ والأسطورة، فعبر «معاداة السامية» يتحول العالم إلى عدو، كما يدّعي الصهاينة، مثلما يتحول الموقف من العدالة إلى موقف آيديولوجي، يرتهن إلى حساسيات جعلها الغرب جزءاً من سياساته المركزية، في العلاقة مع الآخر، بوصف كيان إسرائيل أنموذجاً كنائياً لـ«النموذج الغربي» بقطع النظر عن عنصريته، وعن تقاطعه مع تاريخية فكرة «المواطن العالمي» التي تحدث عنه كانط.

أنموذج «الدولة اليهودية» هو تأكد على فقدان البراءة، وتجريد العالم من تنوعه، فدعوة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو لليهود في فرنسا إلى المجىء لكيانه هو تكريس لمفهوم الدولة الدينية التي ستجعل من حروب المستقبل حروباً دينية ولا علاقة لها بالاقتصاد والجغرافيا والسياسة، وعبر استعارة تاريخية تنطلق من فكرة الانحياز إلى الضحية المثيولوجية، رغم شكوك جيجك حول الاعتماد على «صورة اليهود كضحايا في سبيل إضفاء الشرعية على سياسة القوّة الخاصة بها، فضلاً عن إدانة مُنتقديها باعتبارهم مُناصرين خفيين للهولوكوست، وأن اليهود أخذوا الأرض من الفلسطينيين، وليس من أولئك الذين كانوا السبب في معاناتهم؛ أولئك المدينين لهم بالتعويضات». (سلافوي جيجك: الصهيونية.. إلى أين؟).

أطروحات جيجك حول «لا براءة العالم» تجد في قضية الكراهية والعنصرية موضوعاً مهماً لمواجهة تضخم الآيديولوجيا العنصرية، إذ يربط بين هذا التضخم والعنف، ليدين من خلالها شكل «الدولة الدينية» ذي المواصفات الإسرائيلية بالقول «إن إنشاء دولة يهودية، يعني وضع نهاية لليهودية كدين، لذلك كان النازيون يؤيدون هذه الفكرة. وأن إنشاء هذه الدولة، في رأيه، يناقض التسامح، بل يعني كرهاً للآخرين، ويعني أيضاً التمسك بعنصرية خالصة» (سلافوي جيجك: الصهيونية.. إلى أين؟).


دمى طينية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين
ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين
TT

دمى طينية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين
ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين

يضم مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة مجموعة كبيرة من اللقى المتعددة الأنواع والأحجام، منها مجسمات صُنعت من الطين المحروق وصلت بشكل مجتزأ للأسف. تتبع هذه القطع بشكل عام تقليداً جامعاً تظهر شواهده في نواحٍ عدة من ساحل الخليج العربي، غير أنها تتميز بطابع خاص يظهر في بعض عناصرها المكوّنة.

كشفت أعمال التنقيب المستمرة في الإمارات عن مواقع أثرية متعددة ضاربة في التاريخ، منها موقع مليحة الذي يقع على بعد 20 كيلومتراً جنوب مدينة الذيد، وعلى بعد 50 كيلومتراً إلى الشرق من مدينة الشارقة. من هذا الموقع خرجت سلسلة من القطع الفنية تشهد لتعددية مدهشة في الأساليب الفنية، تشابه تنوعها ما نراه في مواقع عدة من البحرين، كما في جزيرة فيلكا الكويتية، وموقعَي قرية الفاو وثاج في المملكة العربية السعودية.

على مقربة من قبر دائري ضخم يعود تاريخه إلى العصر البرونزي ويُعرف بضريح أم النار، افتتح في عام 2016 مركز مليحة للآثار، وشكّل هذا المركز خير دليل للتعريف بتاريخ هذه الناحية من الخليج، من خلال ما يعرضه من مقتنيات، وما يقيمه من عروض وجولات إلى المناطق الأثرية المحيطة به. يحتفظ هذا المركز بمجموعة صغيرة من المجسمات الآدمية المصنوعة من الطين المحروق، تشهد لحضور هذا التقليد الفني في هذه الناحية من شمال شرقي شبه الجزيرة العربية. تتمثل هذه المجموعة بعدد محدود من القطع التي تُعرف عادة بالدمى، لم يصل أي منها بشكل كامل للأسف.

في هذا الميدان، تبرز قطعة فقدت كما يبدو الجزء الأسفل من تكوينها، وباتت أشبه بمجسّم يحضر على شكل تمثال نصفي يبلغ طوله 13 سنتمتراً، وعرضه 13.5 سنتمتر.

يمثّل هذا المجسّم رجلاً في وضعية ثابتة، يعتمر ما يشبه قلنسوة تلتف حول رأسه على شكل عمامة مسطّحة تخلو من أي ثنية. يستقرّ الرأس فوق عنق عريض، وتتحدّد ملامح وجهه الناتئة في كتلة بيضاوية ملساء. العينان حدقتان دائريتان واسعتان، تتميزان بحجمهما الضخم قياساً للأنف الذي يستقر بينهما على شكل مساحة مستطيلة مجردة، غاب عنها أي أثر للغضاريف وللمنخارين. تبدو الأذنان صغيرتين ومنمنمتين قياساً إلى العينين الضخمتين، وتتشكّل كل منهما من مساحة نصف دائرية تخلو من أي تجويف. الفم ممحو، وينحصر في شق أفقي بسيط يستقل في أسفل مساحة الأنف العمودية. الصدر مستطيل وطويل. الكتفان منحنيتان ومقوستان، والذراعان منسدلتان ومتصلتان بالصدر، وهما مبتورتان بسبب ضياع الجزء الأسفل من تكوينهما. تصل الذراع اليمنى حتى حدود المِرْفق، وتكشف عن حركة طفيفة في اتجاه الذراع اليسرى التي فقدت معصمها ويدها.

تتكرّر صورة هذا الرجل المعمم في قطعة أخرى تتميّز بوضعيّة غير مألوفة. تحضر القامة ممدّدة أفقيّاً، وهي تحني ذراعها اليمنى في اتجاه حوض الصدر، كاشفة عن مساحة فارعة تفصل بينها وبين الخاصرة. الذراع اليسرى مفقودة للأسف، وتوحي حركة البدن بأن صاحبها كان مستلقياً عليها. البدن خالٍ من أي ملامح تشريحية، وساقاه ممددتان أفقياً، مع شق غائر يفصل بينهما. القدمان مفقودتان، وتوحي حركة الركبتين الملتصقتين بأنهما كانتا ملتفتين. وصل الرأس بشكل مستقل كما يبدو، وأعيد جمعه بجسده، كما يكشف الشق الظاهر الذي يفصل العنق عن وسط الكتفين. العينان حلقتان واسعتان ناتئتان تحتلان الجزء الأكبر من مساحة الوجه الدائري، وتتميّز كلّ منهما بتجويف دائري يشير إلى بؤبؤ الحدقة. الثغر بسيط، وينحصر كذلك في شق أفقي قصير. الأذنان موازيتان للعينين، وتتكوّن كل منهما من نصف أسطوانة يتصل أعلاها بالعمامة المسطّحة التي تكلّل هامة الرأس.

يحضر هذا الوجه مستقلّاً في قطعة أخرى غابت عنها هذه القلنسوة. تحضر العينان الشاسعتان مرة أخرى، وهما هنا مسطّحتان ومحدّدتان بخط بسيط غائر. يذوب الأنف في كتلة الطين حتى الغياب، ويظهر الثغر على شكل شق هلالي أفقي يرسم ابتسامة بسيطة تضفي على الوجه طابع البراءة واللطف. شق العنق واضح، ويوحي بأن هذا الوجه يعود إلى جسد ضاع، لم يظهر منه أثر آخر إلى اليوم.

تعود هذه القطع الثلاث، بحسب أهل الاختصاص، إلى القرن الميلادي الأول، وتُشابه في تكوينها مجسّمات عُثر عليها في نواحٍ أخرى من ساحل الخليج العربي، وهي من نتاج مرحلة طويلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى نهاية القرن الثاني الميلادي. من هذه المواقع على سبيل المثال، يحضر موقع الدفي الأثري الذي يقع في شمال مدينة الجبيل، شرق المملكة العربية السعودية. من هذا الموقع السعودي، خرجت دمية آدمية ذات رقبة عريضة وطويلة، يعلوها رأس بيضاوي حافظ على ملامحه بشكل جلي.

كشفت أعمال التنقيب المستمرة في الإمارات عن مواقع أثرية متعددة ضاربة في التاريخ

العينان قرصان دائريان كبيران يتميزان بضخامتهما، وهما ناتئان، ويحوي كل منهما قرصاً يمثّل البؤبؤ، تبعاً لطراز يماثل كما يبدو الطراز الذي اتبع في تجسيم دمية مليحة المستلقية. يعلو هاتين العينين الشاخصتين شريطان أفقيان يشكلان معاً حاجبين متصلين. عند نقطة التقاء هذين الحاجبين، ينسدل أنف عريض يفصل بين قرصي العينين، وتظهر عند أسفل هذا الأنف سمات المنخارين المحددة بشكل طفيف. الفم ناتئ، وهو مكون من شفتين واسعتين يفصل بينهما شق أفقي بسيط. الوجنتان ممتلئتان، والجبين غائب على ما يبدو، وكذلك الذقن التي تختفي عند حدود ما دون الفم، في أسفل هذا الوجه.

من جهة أخرى، تشابه دمى مليحة في تكوينها دمية أنثوية محفوظة في متحف البحرين الوطني، مصدرها موقع قلعة البحرين. فقد هذا المجسم يديه عند أعلى المرفقين، كما فقد النصف الأسفل مما يلي الحوض، وحافظ على رأسه. يحضر وجه هذا الرأس بقوة، وتتجلى هذه القوة في عينين ضخمتين جاحظتين، حُدّدت أجفان كل منهما بقوسين معاكسين غائرين. وسط كل من هاتين العينين، يظهر ثقب يختزل البؤبؤ، كما في دمية الدفي ذات الرقبة الطويلة، ودمية مليحة المستلقية.


عيد صالح: الطب سلبني قصائد تاهت في أروقة المستشفيات

عيد صالح
عيد صالح
TT

عيد صالح: الطب سلبني قصائد تاهت في أروقة المستشفيات

عيد صالح
عيد صالح

يعد الشاعر عيد صالح من أبرز شعراء السبعينات في مصر، جمع بين الطب والشعر عن حب، لكنه لم يستطع أن يتفرغ لأحدهما وظل موزعاً بينهما، فعامله الشعراء بوصفه «طبيباً دخيلاً» عليهم، أما الأطباء فيعاملونه بوصفه «زميلاً متمرداً». أصدر عدداً من الدواوين الشعرية منها «قلبي وأشواق الحصار»، و«شتاء الأسئلة»، و«أنشودة الزان»، و«خريف المرايا»، و«سرطان أليف»، و«ماذا فعلتَ بنا يا مارك؟»... هنا حوار معه حول مكابدات العيش تحت مظلة هذه الثنائية، وهموم الشعر والكتابة.

> لنعد إلى البدايات الأولى... كيف أثرتك نشأتك الريفية في رسم ملامح تجربتك إنسانياً وإبداعياً؟

- تلك البدايات خطّتها قريتي، الشبول، بمحافظة الدقهلية، القابعة على حافة «بحيرة المنزلة»، هي مَن أرضعتني حليب الكتابة مباشرة من ضرعها ونحن نحلب الأبقار ونطارد العصافير والثعابين على الجسر، ونصطاد الأسماك من مياه الفيضان بأحواض الأرز، الفيضان الذي كان يلوّن آنذاك النهرَ باللون الأحمر، ويترك الطمي يلقح الأرض بالخصوبة والجمال. إنها «بحيرة المنزلة» حين تتدفق إليها مياه الفيضان فتحمر رؤوس الأسماك وتغرينا بصيد ثمين، كانت انطلاقاتنا عبر الحقول والطبيعة البكر وبداية ثورة يوليو (تموز) 1952، وهتافي مع الأطفال والصبية ونحن نجوب حواري القرية بحياة أول رئيس لجمهورية لمصر التي في خاطري وفي فمي، حيث نشيد الصباح في مدرستي الابتدائية ومدرسيها العظام وأستاذي «القبطي» كامل عيد حنا الطحان، الذي دفعني لحفظ القرآن شرطاً لدخولي المعهد الديني الذي أصرّ والدي على دخوله بعد أن منعني من التعليم العام، أستاذي هذا الذي أهديته ديواني «رحيق الهباء» عرفاناً بالجميل.

> إلى أي مدى كان لدراستك الأزهرية تأثير في هذا السياق؟

- تلقفتنا يد «الأزهر» الهائلة، تعلمنا الحب والشعر وطلاوة الحديث وسحر الكلمات، نسوح في شوارع مدينة دمياط، حيث مقر المعهد الأزهري، وعلى ضفتَي النهر نتمدد بسيقاننا النحيلة في مياه الفيضان، نتقاذف الحكايات والأشعار من امرؤ القيس والمتنبي إلى أبو تمام. في تلك الفترة الخصبة، اعتدنا أن نذرف الدموع مع مصطفى لطفي المنفلوطي في رائعته الرومانسية «تحت ظلال الزيزفون»، وننشد أشعار البطل في مسرحية «سيرانو دي برجراك» للشاعر الفرنسي إدموند روستان. وضمن مقررات المعهد الأزهري حفظنا «ألفية ابن مالك»، وتهنا في «شذور الذهب»، و«تنقيح الأزهرية»، و«أوضح المسالك». الصدر تملأه الثورات والحكايات... الأساتذة والأصدقاء.

كانت تسكن جسدي النحيل روحٌ متمردةٌ تريد أن تجرّب كل شيء، من الخطابة والشعر إلى التمثيل في فريق المعهد، مروراً بالقصة والمقالات، وانتهاءً بمكتبة المعهد التي كانت تعد أكبر مكتبة في مصر بعد «دار الكتب»، حيث كنا ننهل من أمهات الكتب على يد أساتذة ومعلمين تنويريين عظام حقاً.

> في خضم هذه الرحلة كيف تتعامل مع ثنائية الطب والشعر... أيهما تعطيه الأولية؟ أيهما يؤثر في الآخر من واقع تجربتك؟

- لا أتعامل مع مهنة الطب بوصفها مهنةً ولا حتى بوصفها رسالةً، ولكن بوصفها حياةً كاملةً تستوعب الإنسان وتطحنه وتبتلعه في جوفها الهائل داخل حجرة العمليات، حيث يطل شبح الموت ويختلط العرق بالابتسامات بالآهات بالآلات. سيمفونية إنسانية رائعة تعزف للإنسان، وتجسد تراجيديا الحياة في قمة ضعفها وانتصارها، الحياة عندما يكون لها معنى وقيمة، وأنت تنتزعها من براثن الموت المترقب المتوثب كأسد جائع. لا شيء يعدل غوصك في الجرح وانتزاعك الداء والألم الممض، لا شيء أصدق من لحظات الألم حيث يبدو الإنسان على حقيقته ضعيفاً هشاً، ونظرات الألم والأمل وابتسامة واهنة، ورجاء واعد بعودة نظيفة للحياة.

لكن على الجانب الآخر، هناك وجه سيئ لمهنة الطب، حيث سلبتني عشرات القصائد الجميلة في قسوة، وألقت بها داخل عنابر المرضى وأروقة المستشفيات والأسرَّة البيضاء، حيث تاهت إلى الأبد، ولم أجد الوقت كي أكتبها أو أستردها من أنياب المهنة القاسية الجميلة المرعبة الحانية الباترة العظيمة!

توزعي بين الطب والشعر، تنازعاني واقتتلاني ليتركاني للأسف طبيباً نصف الوقت، وشاعراً نصف الوقت، وبينهما تعيش ازدواجية أن ينعتك الأطباء شاعراً ولا يرى فيك الشعراء إلا طبيباً. ويظل طموحي أن أكتب الطبيب وأعيش الشاعر، الشاعر في بساطته ورقته، في هشاشته وقوته واندفاعه وصولاته وجولاته، في عبثه وإهماله ورثاثته، في طيرانه المستحيل واختراقه الفذ كأنه شعاع كوني تتبع بوصلته هدفاً خرافياً، حيث تتوالد الأبيات وتتفجر القصائد.

> في ديوانك «ماذا فعلت بنا يا مارك» تصب جام غضبك الشعري على مارك زوكربيرغ مؤسس موقع «فيسبوك» وأنت تقول «هذا اللعين مارك / نزع الفرادة والخصوصية / حتى الجينات تمازجت / لتنتج مسخاً»... لماذا هذه الرؤية التي تعادي مواقع التواصل الاجتماعي، ألا ترى بارقة أمل في تكنولوجيا الاتصال الجديدة؟

- ربما كانت صدمتي بهول ما يحدث في الفضاء الإلكتروني، وكم الأكاذيب والنصب والاحتيال، وكم المشكلات الاجتماعية، تلك الصفحات المزورة والأسماء الوهمية. أعرف رجالاً أنشأوا صفحات بأسماء فتيات ليسخروا ويبتزوا كثيراً من الرجال، وأعرف نساء أوقعن بأزواجهن بصفحات وهمية... إلخ. شاهدت مساخر ومهازل يندى لها الجبين مع أننا نستطيع أن نستفيد بسرعة التواصل وتوظيف عنصر الوقت كالأخبار وسرعة النشر والانتشار، ولولا الفضاء الإلكتروني ما اشتهر عشرات المبدعين. التكنولوجيا سلاح ذو حدين، فكما أنها تصنع السلاح الذي يتم به التطهير العرقي وحروب الإبادة منذ هيروشيما ونغازاكي وحتى غزة الآن، إلا أنها جعلت الروبوت يجري عمليات جراحية دقيقة كما جعلت العالم في حجم قبضة اليد.

> لماذا تبدو قصائدك أحياناً وكأنها رثاء للذات في مواجهة العالم وتصوير مرير لهشاشة الروح تحت وطأة واقع قاسٍ لا يعرف الرحمة كما في قولك «أنا الميت الحي/ أجتر ماضي الذي كان / كخرقة بجوار حائط متهالك/ كقطة تكاثر الذباب حولها / كآثار حذاء مثقوب / في وحل حارة معتمة؟»

- مع أنني كما يبدو للكثيرين ذلك الهادئ الطيب الرومانسي الطوباوي الحالم، فإني في الحقيقة أعيش داخلي الذي تراكمت فيه كل أحزان العالم ومآسيه، أعيش انسحاق الفقراء والشعوب المستضعفة والواقعة بين فكي الفقر والجهل والفوارق الطبقية. أعيش أسئلة الوجود الصعب في صقيع الوحدة والاغتراب، أعيش أزمة الإنسان المعاصر بكل تعقيدات الحياة وصراعاتها وما يخبئه الغد الملغوم. ولأنك في الغالب تكتب نفسك حتى لو حاولت بالمجاز والخيال والتجريب والمغايرة فالذات والأغوار السحيقة للنفس والروح القلقة الضائعة المتشظية لا تلبث أن تطل من ثنايا النصوص.

> كثيراً ما يبدو الحب في قصائدك وكأنه مأزق وجودي أو حالة تبعث على الحيرة كما في قولك «لا أجد ما يليق بك / كل الكلام معاد / والمجاز أصبح مطية التجريب والمغامرة / لا شيء حقيقي / والأكاذيب تركب المرسيدس والليموزين»... إذاً ماذا يفعل عشاق هذا الزمان؟

- سأبدأ من آخر جملة في سؤالك الكاشف، فهذا هو سؤالي المضمر الحائر بلا إجابة داخل تجربة الحب اليائس وكأنه حقاً مأزق وجودي على حد قولك وهو كذلك. إنه حب العالم الذي تمحور في حب فتاة أصبحت هي كل الكون والوجود والحياة، هي النهر والبحر والشاطئ واليابسة، هي المد والجزر والعاصفة، هي الوردة والعصفور، هي الضحكة والدمعة واللهفة. لقد أصبح الحب في هذا الزمن أعمق وأعقد، حب الوحدة والصقيع والاغتراب. ورغم كل ذلك، فإن الحب هو الحياة وهو صمام الأمان والتوازن النفسي.

> أنت أحد الأصوات البارزة على خريطة جيل السبعينات الشعري في مصر... كيف ترى تجربة هذا الجيل إجمالاً؟

- لا أحب أن أبدي رأياً في جيل أنتمي إليه لأن رأيي سيكون مجروحاً، كما أن بعض رموز هذا الجيل قد غادرت الحياة مثل حلمي سالم ورفعت سلام ومحمد عيد إبراهيم، وبشكل عام لا أحب أحكام القيمة، وأرى أن القارئ هو الحكم والفيصل في كل تجربة أدبية، كما أن كثيراً من المدارس الشعرية لعبت على الشكل واللغة والغموض في نرجسية منحرفة ولم تحفر عميقاً فيما هو وجودي وإنساني.

>هل تشعر بأن إقامتك بعيداً عن القاهرة حيث العاصمة وأضواؤها لم تجعلك تنال ما تستحق من تقدير، وهل تنظر وراءك في غضب؟

- أذكر أن مجلة «إبداع» الثقافية الشهرية المتخصصة، خصصت عام 1994 عدداً للإبداع خارج العاصمة، وكان المسؤول عن العدد الشاعر حسن طلب الذي نشر مقالاً بعنوان «نحن ضحايا أنفسنا» ألقى فيه باللوم على تقاعسنا عن خوض غمار الزحام باقتحام العاصمة وبقائنا في الأقاليم البعيدة نعبئ الشمس في زجاجات في انتظار «غودو» النشر والمجد والشهرة. نعم أنظر ورائي في غضب لأنني لم أستمع لنصيحة د. يوسف إدريس، الذي قال لي على هامش حوار أجريته معه لمجلة الكلية عام 1968، وقد كنت طالباً بالسنة الثالثة بطب الأزهر: «عليك أن تختار بشجاعة إما الطب وإما الأدب». وللأسف بوصفي فلاحاً فقيراً لم أكن أمتلك رفاهية ترك الطب وأيضاً لم أترك الأدب، وعشت ازدواجية أضاعت عليّ كثيراً في الجانبين كما سبق أن أوضحت.

> أخيراً، كيف ترى هجرة كثير من الشعراء إلى الرواية حتى إن منهم مَن ودّع القصيدة إلى الأبد؟

- هذا السؤال تحديداً يؤلب عليّ المواجع، ويعيدني لبداياتي، التي كانت سردية تجريبية، فقد كنت أكتب قصصاً موزونة وحكايات موقعة، كما كنت أول مَن كتب «القصة القصيرة جداً» في الستينات، وللأسف لم أوثقها بالنشر؛ لأننا كنا نربأ بأنفسنا أن نتسول النشر ونكتفي بقراءة ما نكتب في الندوات الأدبية.

هؤلاء الشعراء محقون بالخروج لرحابة السرد وفضاء الحكي وما وراء القص والفانتازيا والخيال العلمي إلى آخر كل ما تقع عليه عيناك ويصل إليه خيالك ويكون مادة خصبة للسرد، ومن ثم الجوائز والمجد والشهرة. بعضهم حصل على جوائز عربية مثل إبراهيم نصر الله، وجلال برجس الذي بدأ شاعراً، ونشأت المصري الذي طلّق الشعر وكتب 12 رواية، لكن سيظل للشعر سحره الخاص.


لمن يقرأ الشعراء قصائدهم؟

محمد الفيتوري
محمد الفيتوري
TT

لمن يقرأ الشعراء قصائدهم؟

محمد الفيتوري
محمد الفيتوري

كلنا يسمع سرديات الأدباء والشعراء وكيف كانوا يقرأون قصائدهم في أماكن عامة يحضرها المئات، بل الآلاف من المعجبين، أو الجمهور المتذوق للشعر، ويُروى أن أحد الشعراء العراقيين وهو محمد صالح بحر العلوم كانت الناس تحجز مقاعدها في القاعة التي يقرأ فيها شعراً قبل موعد الجلسة بساعات، وكان الجمهور يتتبع حركة الشعراء ومواعيد أمسياتهم ليرتّبوا جدولهم في الحضور في ذلك اليوم، وقد أدركت بعضاً من تلك الظاهرة أواسط التسعينات، حيث يُقام مهرجان المربد، وكنت شاباً صغيراً أحضر دون أن أُدعى، وكان المئات حاضرين ممن ليس لهم غاية سوى سماع الشعر والاستمتاع به، جمهور لا ينتمي إلى أي اتحاد أو رابطة أو وزارة، إنما جمهور من الطبقة الوسطى يتذوق الشعر ويتفاعل معه، وهذا الجمهور هو نفسه الذي يقرأ الصحف والمجلات، وهو نفسه الذي يستوقفك في مكان ما ليناقشك حول بيت قلته في قصيدة ما قبل سنوات، أو رأي طرحته في حوار لك في مجلة ما، قبل مدة من الزمن، هذا الجمهور الذي يحضر الأمسية الشعرية في شتى الظروف والأحوال، بل وصل الحال أن يمتلئ ملعب من الملاعب في إحدى أمسيات محمود درويش في عمَّان، فضلاً عن الفعاليات التي تنتمي إلى حقل الجامعة وحضور الطلاب فيها بكثافة عالية، أما الآن فالموضوع اختلف تماماً؛ ذلك أن الحضور هم أنفسهم الشعراء، فمنذ أكثر من عشرة أعوام ومن خلال تجربتي الخاصة، وهي تجربة أبناء جيلي في العراق وبقية الدول العربية، حيث اشتركنا بعشرات الأماسي والمهرجانات الشعرية في معظم العواصم العربية وفي بغداد والبصرة، والبعض منها تكررت أكثر من مرة، كان المشترك الوحيد بين تلك المهرجانات هو الجمهور، حيث يتكرر الجمهور نفسه في كل أُمسية وفي كل مهرجان، لا يندهش ولا يتأثر، حتى تحول الجمهور روبوتاً يحضر بشكل روتيني لهذا المكان سداً لفراغ ما، أو تلبية لحاجة قد لا تكون شعرية، إنما اجتماعية في المقام الأول، كلقاء الأصدقاء والأحبة، والأمر الآخر أن هذا الجمهور الذي نبحث عنه قد اختفى، حيث لم يعد لدينا جمهور شعري يسأل ويتابع ويحضر الندوات والأماسي والمهرجانات، إنما الجمهور في المهرجانات الشعرية في الأغلب هم أنفسهم الشعراء، يسمعون لبعضهم، ويتندرون على بعضهم، ويشتمون بعضهم ويصفقون لبعضهم، وهذا الأمر لا يرتبط بالعراق ولا بدولة دون أخرى مع بعض الفروقات والتمايزات، حيث وجدت معظم الجمهور الشعري في عواصم عربية متعددة هو نفسه الجمهور المتواجد في الفندق وهو نفسه الضيوف المدعوون إلا ما ندر.

نزار قباني

إن هذه الظاهرة، ظاهرة اختفاء الجمهور الشعري واستبداله بالشعراء أنفسهم، هي محل تساؤل، وهو أمر يكشف عن مرحلة من مراحل الثقافة العربية التي لا تكترث للأدب ولا للشعر على وجه التحديد، إنما سحبت أقدامها طرق أخرى غير الشعر، فهل للسوشال ميديا سبب في هذه الظاهرة؟ حيث انشغل الفرد منا بعالم الموبايل ووصل التوحد أقصاه في هذه الظاهرة؟ ربما...

أم أن ظاهرة الشعراء الكبار اختفت من المشهد؟ فلم يعودوا موجودين بيننا، فلا الجواهري ولا عبد الرزاق ولا البياتي ولا نزار ولا درويش ولا سميح ولا الفيتوري ولا مظفر ولا ولا، أولئك الشعراء الذين كان كل واحد منهم يشكل ظاهرة وحالة شعرية وحده، أولئك الشعراء الذين تغري أسماؤهم الناس ليملأوا أي قاعة مهما كبر حجمها، أم أن شعراء الحداثة أسهموا ببناء ذلك الجدار الكبير بين الشعر وبين الجمهور، حيث وصلوا مراحل من التجريب والانغلاق حد التعمية في الكثير من الحالات وبدأوا يصرحون أن الشاعر كلما كثر جمهوره انخفضت شاعريته، وهذا ما صرح به أدونيس في مرات عدّة، فهل هذا التصريح هو لدرء التهمة عن ضياع الجمهور الشعري وتشتته؟ أم هو إيمان مطلق بالفكرة التي تقول لا أهمية للجمهور؟ وإن كان الجمهور غير مهم لشعراء الحداثة، فعلام يصر رموزه أن يقرأوا في المهرجانات الشعرية والأماسي؟ ويمسرحون نصوصهم على المسرح حد الذوبان؟

محمد مهدي الجواهري

أم أن الجمهور تحولت طريقته في التلقي، فبدلاً من الحضور في القاعة وسماع الشاعر واللقاء به دماً ولحماً، سيذهب المتلقي إلى جهازه النقال ويتابع الأمسية على البث المباشر، ولا فرق ممداً في بيته أو في السيارة أو المقهى، وتحول التصفيق «لايك»، والهياج الذي يمارسه الجمهور تعليقاً، والإعجاب الشديد مشاركة المنشور، أم أن الشعر وتلقيه ارتبطا بمرحلة من مراحل صعود الآيدولوجيات في العالم العربي، فجميع الأسماء الشعرية التي ذكرتها أعلاه والتي لكل واحد منهم جمهور عريض، فإن كل شاعر من هؤلاء الشعراء يسحب جمهوره المؤدلج إلى حد ما إلى مساحته التي يدور في فلكها، حيث نجد جمهوراً يسارياً، وآخر قومياً، وآخر مناهضاً للاحتلال، وآخر لشتم الحكومات، وأظن بزوال شمس الآيدولوجيات الساخنة واستبدالها بالعالم الليبرالي واختفاء الجيل المؤسس وما بعده، فإن فكرة الشاعر المؤدلج الآن لن تنفع كثيراً ولن يكون لها جمهور كما كانت في الستينات والسبعينات، والآن لو رجع الجواهري بنفسه وشتم الحكومات فهل سيجد جمهوره الذي كان يلقي عليه في الحيدرخانة لينطلق به في مظاهرة في ساحة الميدان؟

محمود درويش

إن هذه الظاهرة تستدعي منا أن نقف لمراجعتها، لماذا اختفى جمهور الشعر؟ وإن وُجد فهو نفسه منذ عشرة أعوام أو أكثر، لا يقلون ولا يكثرون.

وما دعاني لرصد هذه الظاهرة تطوافي في مدن عربية عدّة شاركتُ في مهرجاناتها وأماسيها الشعرية، لم أجد تغييراً واضحاً في وجوه الجمهور الذي رأيتهم قبل عشرة أعوام، فهم نفسهم ثابتون ومقيمون ما أقام عسيب،

وما دعاني أيضاً إلى مناقشة هذا الموضوع، مجموعة صور نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لأحد المهرجانات الشعرية قبل أيام، والتي كُتب عليها «مهرجان عالمي للشعر» في إحدى دول المغرب العربي، حيث تتبعت الصور التي التقطها الشعراء، ومن ثم صورة القاعة التي يقرأون فيها الشعر، فإذا هم انفسهم الجمهور، وهم لا يتجاوزون العشرين شاعراً، ومعظمهم أسماء معروفة وكبيرة، ولكن القاعة خالية إلا من الضيوف فقط، وهذا ما حدث معي أيضاً ففي إحدى الأمسيات كنت أنا وصديق لي شاعر سعودي مدعوَين لأمسية شعرية في إحدى الدول العربية، وقد نشرنا إعلاناً عن مكان وموعد الأمسية، وحين حضرنا لم نجد إلا سبعة أشخاص في القاعة، بحيث تذكرنا لحظتها مجلس العزاء الذي أقامه الفنان حسن حسني في الفيلم الشهير (كركر) بطولة محمد سعد (اللمبي) وحسن حسني، وهذا الموقف أعادني لعام 1997، حيث كنت رئيساً لرابطة الرصافة للشعراء الشباب، وقد أقمنا مهرجاناً شعرياً للشباب، حضر الشعراء وغاب الجمهور تماماً، ما الذي نصنع؟ جاءتني فكرة ساحرة، فقد ذهبت مباشرة إلى إعدادية للبنات قريبة من مقر الرابطة، ودخلت على المديرة وقلت لها بضرورة حضور شعبتين من الطالبات لهذا المهرجان، لم تمانع تلك السيدة ووجهت الشعبتين من ثمانين طالبة مع أستاذتين ترافقان الطالبات، وبالفعل، بعد دقائق توجهنا إلى القاعة وقطعنا الطريق، حيث نقود الطالبات حتى وصلنا القاعة، فامتلأت القاعة وغصت بالحضور، ونفش الشعراء ريشاتهم، لأنهم لم يروا جمهوراً أجمل من هذا الجمهور، فما إن تحرك يدك حتى تسمع التصفيقات الحارة بعد لحظة. ولو تركنا الجمهور الذي يحضر بدمه ولحمه إلى القاعة وانتقلنا إلى الجمهور الآخر، الجمهور غير الشفاهي القارئ، فهل سنجد جمهوراً قارئاً يبحث عن الشعراء ودواوينهم الجديدة ويتتبع تحولاتهم، طبعاً لن نعدم مثل هذه الظاهرة بالتأكيد، ولكن لن تكون ظاهرة واسعة ومؤثرة، بدليل سوق الكتاب الشعري ومنسوب انخفاض مشترياتها، وهروب معظم دور النشر من طباعة الدواوين الشعرية، وحتى وإن طبعت فإن سوقها لن تكون مزدهرة مقارنة بسوق الكتاب الديني أو الفكري أو حتى الرواية.فأين ذهبتم يا أبناء اللغة العربية؟ تلك الأمة الشاعرة التي يجري الشعر بدمهم ويتنفسونه مع كل شهقة، هل تركتم الشعراء يصيحون وحدهم في هذا العالم الموحش؟ والذين منذ اكثر من ألف وستمائة عام كان يصيح ملكهم الضليل:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل

ليدرأ الوحشة عنه

فعلام تركتم الشعراء وحدهم كالأطفال

يلعبون باللغة دون أن يسمعهم أحد، ويبكون وحدهم بصمت، حتى جرحتهم العزلة وأصيبوا بالتوحد.


اللبناني سلمان زين الدين يهدي ديوانه الجديد إلى «عصافير غزة»

اللبناني سلمان زين الدين يهدي ديوانه الجديد إلى «عصافير غزة»
TT

اللبناني سلمان زين الدين يهدي ديوانه الجديد إلى «عصافير غزة»

اللبناني سلمان زين الدين يهدي ديوانه الجديد إلى «عصافير غزة»

صدر حديثاً عن «الهيئة المصرية العامّة للكتاب» - «سلسلة الإبداع العربي» - ديوان «عصافير» للشاعر اللبناني سلمان زين الدين، وهو السّابع له، بعد «زاد للطريق»، و«أقواس قزح»، و«ضمائر منفصلة»، و«دروب»، و«أحوال الماء»، و«تفاح».

في الديوان يجتاز الشاعر عتبة الماضي، ويبحر بالزمن عائداً إلى أمس بعيد، لا يزال عالقاً بذاته الشاعرة، أو لا تزال هي عالقة فيه، لكنه لا يحتكر الحنين، إنّما يهيّئ القارئ لمشاركته الشعور نفسه، ويستنفر لديه طاقات التأمّل، ليتفكّر في رحلة أزلية تعبر المحطّات نفسها، تنطلق من سعادة البدء، وتنصاع إلى صيرورة المرور، ثم تنتهي بالذبول.

يمارس زين الدين في الديوان حنيناً لطفولته، لظلّ الأمومة، لمباهج تساقطت على أرصفة الزمن، وفي زوايا الطريق، وبين أقدام العابرين. وبينما يفيء للأمس، يتمرّد على الحاضر، وعلى قطيعٍ اعتاد الخضوع، مهابة مجهول يحمل في جنباته الربيع. يقتفي أثر «جلجامش» ابتغاء الخلود، فيسكن القصيدة. ويكتشف مخبأ السعادة التي تحتمي بالداخل، بعيداً من الخارج، من جحيم الآخرين، ويهدي رحلته المسكونة بالحنين إلى «عصافير غزة/ (الذين) لم يتّسع العالم لأجنحتهم/ فراحوا يحلّقون في العالم الآخر». ومن جوّ «عصافير»:

«العصافير التي تستوطن الحيّ/ كجيران الرضى/ آلَتْ على نفسها/ أن توقظ الحيَّ على أصواتها/ مُعْفِيَةً من فرضه اليومي/ طاووس الصّياحْ/ فغدا يغفو على الحلم بها ليلاً/ إذا نامت قناديل المساءْ/ وغدا يصحو على تغريدها العذبِ/ إذا ما استيقظت من نومها/ شمس السَّماءْ/ واستجابت لنداءات الصَّباحْ».

وسلمان زين الدين أديب وشاعر وناقد ومفتّش تربوي لبناني، له سبع مجموعات شعرية، وأحد عشر كتاباً في النقد الروائي، وكتابان اثنان في الأدب الريفي، وقد سبق له أن نال جائزة سعيد عقل للشعر من جامعة سيدة اللويزة عام 2015، وجائزة سعيد فياض للإبداع الشعري عام 2016.


انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في التاسع من مايو المقبل

انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في التاسع من مايو المقبل
TT

انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في التاسع من مايو المقبل

انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في التاسع من مايو المقبل

تنطلق فعاليات الدورة الثالثة والثلاثين من معرض الدوحة الدولي للكتاب، في مركز الدوحة للمعارض والمؤتمرات، خلال الفترة من 9-18 مايو المقبل، تحت شعار «بالمعرفة تُبنى الحضارات».

وأوضحت وزارة الثقافة القطرية، في بيان لها، أن المعرض سيشهد في دورته الثالثة والثلاثين أكبر مشاركة دولية في تاريخه؛ إذ يستقطب أكثر من 515 دار نشر من 42 دولة، إضافة إلى مشاركة ثقافية كبيرة لسفارات الدول الشقيقة والصديقة.

وأضافت أن سلطنة عمان ستكون ضيف شرف الدورة الثالثة والثلاثين من المعرض؛ حيث تشارك بجناح خاص وبرنامج ثقافي منوع، يبرز التراث العماني الأصيل والإنتاج الفكري والأدبي، ويقدم مجموعة من العروض الشعبية والفنية.

وقال الدكتور غانم بن مبارك العلي، وكيل الوزارة المساعد للشؤون الثقافية بالوزارة، في تصريح له، إن الإقبال الكبير من قبل دور النشر المحلية والعربية والأجنبية على المشاركة في معرض الدوحة الدولي للكتاب، يؤكد مكانته الثقافية والفكرية المرموقة على الساحتين الإقليمية والدولية، ويعزز دوره الرائد في دعم مسيرة الفكر والإبداع، وتعظيم الإنتاج الأدبي والمعرفي.

وأكد أن المعرض أصبح مناسبة جامعة لأنماط ثقافية متنوعة، ومنصة تفاعلية حية لتبادل المعارف والخبرات والأفكار المستنيرة، إضافة إلى تعزيز ثقافة القراءة، ودعم حركة النشر والتأليف، منوهاً في الوقت نفسه بأن اختيار شعار الدورة الحالية «بالمعرفة تُبنى الحضارات»، يعكس حرص وزارة الثقافة على تعزيز جهود نشر العلم والمعرفة والإبداع، بوصفها ركائز أساسية في بناء الحضارات.

ونوَّه العلي بالمشاركة المميزة لسلطنة عمان «ضيف الشرف»، من خلال تنظيم عروض ثقافية تراثية وشعبية عمانية، إضافة إلى الاحتفاء بالتراث الخليجي والعربي الأصيل، عبر عدد من العروض لأبرز الفرق المسرحية والفنية العربية، من سلطنة عمان ولبنان وغيرهما.

وأكد أن نسخة هذا العام من معرض الدوحة الدولي للكتاب تجني ثمار التطور الكبير الذي تشهده دور النشر القطرية، ضمن جهود دعم صناعة الكتاب والنشر والإبداع في الدولة.

كما يحظى المعرض بمشاركة خليجية وعربية ودولية مميزة، تتمثل في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، ووزارة التراث والثقافة بسلطنة عمان، وهيئة الشارقة للكتاب، ومركز أبوظبي للغة العربية، ومعهد الإدارة العامة بالمملكة العربية السعودية، وجامعة طيبة السعودية، بالإضافة إلى وزارات الثقافة في كل من المغرب والجزائر واليمن والهيئة العامة للكتاب في مصر، فضلاً عن مشاركة الصين وأذربيجان وعدد من اتحادات الناشرين في موريتانيا والأردن وتركيا، ودور نشر أميركية وبريطانية.

وتشارك في فعاليات المعرض كذلك 8 مكتبات من سور الأزبكية التاريخي لبيع الكتب القديمة في مصر، وذلك في إطار اهتمام المعرض بإبراز التنوع الثقافي، واستقطاب أسواق الكتب التاريخية مثلما استضافت الدورة السابقة شارع المتنبي من العراق.

الفعاليات الثقافية

ويحتضن المسرح الرئيسي المقام ضمن فعاليات المعرض، باقة منوعة من الندوات والمحاضرات والأمسيات الشعرية، إضافة إلى عروض مسرحية «كركلا» من لبنان، ومسرحية يومية ينظمها مركز شؤون المسرح.

ويولي المعرض اهتماماً خاصاً بفعاليات الأطفال، من خلال «واحة الطفل» التي تفسح للأطفال أفق التعلم والتفكير والإبداع، بطريقة ترفيهية جذابة من خلال أنشطة تفاعلية عدة، كما سيتم من خلال الصالون الثقافي تنظيم جلسات أدبية وفكرية تفتح نوافذ الحوار المعرفي بين المؤلف والقارئ، فضلاً عن احتضان حفلات تدشين الكتب.

ويتضمن برنامج الفعاليات المصاحبة لمعرض الدوحة الدولي للكتاب، مجموعة من ورشات العمل في مجالات متنوعة ثقافية واجتماعية ومهنية، إضافة إلى معرض للصور الفوتوغرافية، تحت عنوان «اقرأ» في جناح مركز قطر للتصوير.

ومن المقرر أن يستعرض مجموعة من الفنانين التشكيليين القطريين أبرز أعمالهم الفنية في جناح الفن التشكيلي والرسم الحر، بينما يقدم جناح الخط العربي أعمالاً منوعة تبرز جماليات الخط العربي.


تحولات المشهد الفني الأوروبي

تحولات المشهد الفني الأوروبي
TT

تحولات المشهد الفني الأوروبي

تحولات المشهد الفني الأوروبي

تسعى المفكرة الفرنسية كارول تالون هيغون Carole Talon-Hugon، في كتابها: «الفنان في رداء الباحث» (المنشورات الجامعية الفرنسية، باريس، 2022)، إلى أن تجيب عن سؤال طالما أثار جدلاً في التحليلات النظرية بصدد الفن المعاصر، مفاده: هل يكفي الانتقال من بداهة «الموهبة» إلى العمل البحثي المتصل بالتاريخ والأنثروبولوجيا، وأحياناً بالفيزياء والبرمجة الرقمية، لتفسير سيرورة الفن المعاصر، واستيعاب مسعاه إلى محو الحدود بين الحسي والخيالي والحقيقي والزائف، والمعرفي والآيديولوجي؟ سؤال يُطوّر خلاصات عمل نقدي سابق لها، وهي المختصة في الجماليات والفلسفة المعاصرة، والأستاذة بجامعة السوربون، عنونته بـ«الفن تحت السيطرة» (2020)، حيث انتهت إلى اعتبار ما يُعرض اليوم في أروقة الفن المعاصر، من نيويورك إلى سيدني، ومن باريس إلى جنيف...، مقترحات بصرية تستدعي فعل «القراءة» أكثر من «المشاهدة»، اعتباراً لحجم مرفقاته من النصوص والمطبوعات، وبالنظر إلى تمركزه حول موضوعات فكرية وثقافية تضمر مواقف سياسية.

تختار الباحثة أن تسترسل في مواكبة تحولات المشهد الفني الأوروبي، في كتابها الراهن عن «الفنان في رداء الباحث»، وأن تبرهن بقدر غير يسير من الوضوح والسلاسة، عن فكرة الانسلاخ التدريجي لشخصية الفنان الغربي من هيئته الأصلية، المتسمة في غالبيتها بالاعتماد على ملكة الفعل الفني «الموهوب»، لأجل صياغة تحفة للعرض، عبر مسار دراسي يستهدف صقل موهبته وتطوير مهاراته؛ لينتقل إلى ممارسة تحاكي عمل الباحث في المعارف والعلوم الإنسانية والاجتماعية، سواء في اعتماده على تكوينات متعددة الاختصاصات، والاشتغال على موضوعات بمنهجية دقيقة، ثم التدرج في تطوير الأبحاث، لأجل الوصول إلى تمثُّل أفكار ومعتقدات ووقائع في أفق إعادة تركيبها ونقدها.

ولأجل تحصيل هذا المأرب الاستدلالي، تنطلق الباحثة الفرنسية من مسار نموذجي، على الأقل في السياق الأوربي، متمثل في عمل الطباخ والفنان والباحث الإسباني فران آندريا Ferran Adrià، صاحب سلسلة المطاعم العالمية الشهيرة: «إلبوللي (elbulli)»، الذي استطاع أن ينشئ مساحة جدل وتقاطع أخاذة ومثيرة للتأمل بين التجريب الطباخي والبحث في الأشكال والأساليب، وممارسة الرسم والتصميم. وقد اتسمت أعماله التي احتضنتها مراكز عالمية للفن المعاصر، بغير قليل من الدعائية المقترنة بصلب عقيدة تلك المؤسسات الفنية. إنما المتن الإشكالي للكتاب سينصب على صلب ممارسة عملية البحث في حقل الفنون المعاصرة وتحديداً الوثائقية قبل الانتهاء إلى مراجعة المفهوم المخاتل لـ«البحث» و«الباحث» في هذا النطاق، الذي كان مستبعداً من حدود العلم والمعارف العلمية، قبل أن ينتهي به المطاف إلى الارتباط بمرجعياتها وقواعدها ومراميها؛ لا سيما في العقدين الأخيرين من هذا القرن، الذي شهد تحولاً مطرداً لكليات الفنون وكلياتها ومدارسها، من تدريس قواعد الإبداع الأكاديمية في الرسم والصباغة والنحت، إلى مؤسسات تنشغل بالأبحاث في مضامين الفنون وأساليبها ووظائفها الاجتماعية والسياسية وارتباطها بالتداول العملي.

تقسم الباحثة كتابها إلى 4 فصول. تحدد في الأول الوضع الراهن لطبيعة الممارسة الإبداعية في حقول الفن المعاصر التي تتسم بالتعقيد في علاقتها بالرهانات البحثية ذات الطبيعة العلمية. وترسم في الفصل الثاني المسار التاريخي لهذا التحول الجوهري، بينما تبسط في الفصل الثالث ملامح الامتحان النقدي لمفهوم الباحث في حقل الفن، وإمكانية نهوض الفن بأدوار العلم، اعتماداً على ما تقدمه الفنون الوثائقية من مواد قابلة للتحليل. وتختم في الفصل الرابع استعراضها لمقومات هذا المسعى بالتوقف عند ما بات يكتسح المؤسسات الفنية من انشغال باستلهام النموذج الجامعي، سواء باعتماد كليات ومعاهد الفنون الجميلة نظام شهادات مشابهاً، يمنح الإجازة والماستر والدكتوراه، أو استحداث متاحف عريقة لبنيات بحث، أسمتها «مختبرات» على غرار ما نجد في الجامعات.

ولعل الفرضية الأساسية التي ينهض عليها مجمل مباحث كتاب كارول تالون هيغون الأخير تتمثل في كون الفنان أصبح باحثاً موثِّقاً، بقدر ما صار الفن المعاصر وثائقياً، يمكن تلمس ذلك في التدفق الهادر للأعمال المصورة للحروب والأوبئة والزلازل... وما ترتب عليها من موجات لجوء وهجرات جماعية بين جغرافيات الكون، من فلسطين إلى تركيا، ومن لبنان إلى كوسوفو... أي أن الأعمال الفنية باتت تسعى إلى الكشف عن حقائق، ومعرفة أصولها ودقتها، دون أن تفارق غايات ثلاث، تتمثل أولاها في الطموح العلمي بالنظر إلى صلة العمل الفني بخطابه، وما يستتبعه الأمر من إعادة تنظيم الصلة بين العلم والفن. وتبرز الثانية منافسة الغايات العلمية للغايات الفنية، بينما تجلي الثالثة المأرب السياسي، لهذا النحو من العمل البحثي في حضيرة الفن، عبر تقديم مقترحات بصرية تمثل شهادات على جرائم إبادة جماعية أوحروب أو كوارث طبيعية.

هكذا تشكّل أسئلة الحدود ما بين أرضية البحث الوثائقي وقواعده، وتشكيل مدونة بصرية مستوفاة لكل مقومات العمل الفني الانشغال المركزي للكتاب، سواء في الممارسة الإبداعية أو النظر النقدي، إذ بتعبير الباحثة «يتقدم اليوم، تيار بارز من الفن المعاصر، وعلى نقيض الشائع، بما هو مؤسسة معرفية...، إنه التيار الذي يصل بين الأعمال المؤثرة في العلوم الاجتماعية، والمواد وأنماط العمليات والمحصلات النهائية» (ص 71). حيث يمكن العثور على المواد الأرشيفية والمستندات والشهادات، في صلب منجزات الفيديو والتركيبات السمعية البصرية، والتنصيبات ولوحات الكولاج، بشكل متصاعد، حيث يسلط الكتاب الضوء على أعمال ماري كوسناي Marie Cosnay ، وإريك بودلير Eric Baudelaire ، وجوليان سيروسي Julien Seroussi ، وآخرين، ممّن تتحول لديهم الوثائق الشخصية لملتحقين بالحركات الجهادية في سوريا، وأرشيف محكمة العدل الدولية في لاهاي، وشهادات الناجين من حروب الإبادة (في رواندا والسودان) إلى منطلق للاشتغال البحثي، قبل أن تحتل مركز التأليف الفني.

ومما لا شك فيه أن النصوص الموازية لهذا النوع من الاشتغال البصري، بقدر ما تنصرف لكي تمثل جزءاً من طبيعة العرض الفني المعاصر، فإنها تمثل بوصفها، هامشاً على مسار البحث الذي عبره الفنان وحوله بالإضافة إلى مؤلف بصري، بخلفية جمالية وأدبية، إلى صاحب وجهة نظر تاريخية وأنثروبولوجية، وأحياناً سياسية واجتماعية. من هنا سنجد - حسب الكتاب - أن «المسافة التي بدت واسعة في الوهلة الأولى بين البحث في العلوم الاجتماعية والإنجاز الفني سرعان ما ستتقلص، لا سيما داخل الأجناس البصرية المسماة وثائقية» (ص 69)، من قبيل الفوتوغرافيا الوثائقية، الممارسة أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، والفيلم الوثائقي، والتحقيقات الصحفية وغيرها.

صحيح أن هذا الرهان على جعل الوثيقة الجاهزة، بما هي مادة مرجعية فقدت صلاحيتها في الاستعمال الوظيفي، تجلى بوصفه هدفاً رئيسياً من جملة أهداف الفنانين المعاصرين لتوسيع مساحة السؤال عن «معايير التمييز بين ما يمكن اعتباره بداهة (فناً)، وما ينبغي استثناؤه منه» (ص 120)، إلا أن العمل على ابتداع وضع مستجد للوثائق خارج سياق إنتاجها، ومحاولة إنتاج دلالات متعدية في نطاق العمل الفني المعاصر لها، جعلا السؤال الفكري والجمالي أكبر من الحسم في الحدود، ومعايير التقدير الفني، إلى الهدف من العمل الفني نفسه، الذي ينبغي بمعنى ما أن ينخرط في إعادة فهم الأسئلة الكبرى وتحليلها: أسئلة الهوية والذاكرة والهجرة والعنصرية...، على نحو مغاير لما درج عليه الباحث في العلوم الإنسانية، إنما بمعارف ومرجعيات لا تقل قيمة وكثافة منه.

ثمة في المحصلة قناعة غالبة، بأن الأشكال الفنية المعاصرة المتصلة بـ«الوثائقيات»، تجد تعريفاتها وفهمها على نحو مزدوج ولا يشكل أي عقبة في التصنيف، إذ تعكس قاعدة من قواعد اشتغال الفنان المعاصر، أي الوجود في مساحة الجدل و«البين - بين» الذي يؤسس رمزياً لاحتمالات أكثر خصوبة للمنجزات الفنية المعروضة في الأروقة الممتدة عبر عواصم العالم الغربي، أي أنه يشيّد قواعد مغايرة لما بعد العمل الفني، الذي يمكن بسهولة النظر إليه بوصفه، على حد تعبير صاحبة الكتاب: «فنياً إلى أبعد الحدود، وعلمياً أيضاً بالمقدار نفسه» (ص 56).


السجين الفلسطيني باسم خندقجي يكتب متحرراً من الأسر

السجين الفلسطيني باسم خندقجي يكتب متحرراً من الأسر
TT

السجين الفلسطيني باسم خندقجي يكتب متحرراً من الأسر

السجين الفلسطيني باسم خندقجي يكتب متحرراً من الأسر

ليس من الإنصاف في شيء، أن يُبالغ في مدح رواية، تعاطفاً مع صاحبها حين تكون له تجربة أليمة، كما أنه ليس من العدل، أن يغمط أديب موهوب حقه، كي لا يقال إنه وضعه الاستثنائي كان وراء الاحتفاء به.

الرواية هي «قناع بلون السماء» وصاحبها الفلسطيني باسم خندقجي، الذي أعلن أمس (الأحد)، فوزه بالدورة الـ17 للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر).

فأنت لا يمكنك أن تقرأ رواية «قناع بلون السماء» الصادرة عن «دار الآداب» لباسم خندقجي، المعتقل في السجون الإسرائيلية منذ عشرين عاماً، إلا وتعجب بهذا الشاب الذي يكتب بعد كل هذا العمر في الأسر، رواية يتنقل فيها بين المدن وفي الأزقة، ويحيك الخطط ويعيش قصص الحب، ويحاول أن يفهم ما يفكر به عدوه، ويتفاعل معه دون حقد، دون عدوانية، وكأنه يتخفف من نفسه، حدّ التبرؤ من الذاتية. كيف لأسير لا أمل له في الحرية، محكوم بثلاثة مؤبدات، ألا يجعل ظروف الاعتقال ومأساة الحرمان من نور الحياة، جزءاً من روايته. خندقجي يكاد لا يتطرق في روايته إلى الموضوع إلا لماماً، وكأنه يعيش حريته الكاملة التي لا تنتقص ولا تمسّ، لا بل هو وجد اللعبة الروائية المناسبة، ليتفلت من فلسطينيته ويعيش في جلد إسرائيلي لبعض الوقت.

«قناع بلون السماء» تروي قصة نور الشهدي الشاب الفلسطيني الذي تخرّج في المعهد العالي للآثار الإسلامية بجامعة القدس. تبدأ الرواية وهو يسجل رسالة صوتية لصديقه مراد القابع في السجن، يخبره فيها عن رغبته في الكتابة عن مريم المجدلية. هذه هي الإحالة الوحيدة إلى الأسر والسجون، والمناسبة التي تفسح له مجال الكتابة عن بعض ما يدور في نفس السجين أو محبيه. واهتمام نور بطل الرواية كما رغبته الجارفة في الكتابة عن مريم المجدلية، تحتل بالفعل جزءاً مهماً من رواية «قناع بلون السماء»، مما يجعلنا أمام تقنية كتابة رواية داخل الرواية، خاصة أن صديقه مراد الذي يحضّر لكتابه رسالة بحثية في السجن، يطلب منه أن يجلب له بعض المراجع، تماماً كما كان يفعل باسم خندقجي نفسه، حين يطلب من شقيقه أثناء زيارته أن يوفر له مراجع لكتابة روايته التي بين أيدينا.

لكن الموضوع الأساسي، يبدأ عند عثور نور بطل الرواية على هوية إسرائيلية داخل معطف قديم اشتراه، تحمل اسم أور شابيرا. وتأتيه فكرة أن يتقمص شخصية هذا اليهودي، مستغلاً أن ملامحه بيضاء تشبه الأشكناز، مما يجعله قادراً على العبور بسهولة إلى أماكن محظورة على الفلسطينيين. هكذا يتمكن نور من الحصول على بعض حقوقه المهدورة بسبب الاحتلال والتمييز. أما العبرية التي يتقنها فتصبح بالنسبة له «غنيمة حرب»، وهو يستخدمها ليدرأ كل شبهة يمكن أن تحوم حوله. يجد نفسه، والحالة هذه قادراً على التنقل بحرية والتجول في شوارع القدس وتل أبيب كما رام الله، وحيث يشاء، دون أن يستوقفه أحد. يقول لمراد: «عثرت على قناع واسم لأتسلل من خلالهما إلى أعماق العالم الكولونيالي... أليس هذا ما يقوله صديقك فرانز فانون حول الجلود السوداء والأقنعة البيضاء؟»، لا بل هو يشعر وقد انتقل إلى شخصية أو أنه أصبح أشبه بـ«جيمس بوند».

بعد إقامة قصيرة في منزل الشيخ مرسي في القدس، وسيرة ذاتية مزورة المضمون باسم أور شابيرا، يتمكن نور من تحقيق بعض من حلمه بالالتحاق ببعثة تنقيب يترأسها البروفسور بريان، تضم أشخاصاً من عدة جنسيات، بينهم الإسرائيلية الشرقية أيالان من يهود المزراحيم، أصولها حلبية، تعجب به وإن اتهمته باستمرار بالتشاوف بسبب أصوله الأشكنازية. وضمن فريق التنقيب هذا سما إسماعيل من الداخل الفلسطيني، من حيفا تحديداً، وهي التي ستفتنه أول ما يسمع صوتها، وتوقظ فيه بفضل حسّ الهوية العالي لديها، إحساسه الكبير بالانتماء.

في مستوطنة مشمار هعيمق التي أقيمت على أنقاض قرية أبو شوشة الفلسطينية وزرعت فيها غابة لإخفاء كل أثر سابق، يدور جزء من الأحداث. هناك يقع نور في حب سما، ثم يكشف القناع عن وجهه الحقيقي، لكنها لا تصدقه، وتستغرب كيف له أن يتبنى الهوية التي أنفت منها وكافحت ضدها. لكن حين تتصاعد الأحداث في القدس، ويبدو نور على سجيته أمام سما، ويشعر الاثنان أنهما يقتربان من بعضهما بما لا يسمح بالافتراق.

التفاصيل في العمل كثيرة وباسم خندقجي مولع بهذا. لكنه ربما يتعمق ويكثر في سرد حكاية المجدلية وقضايا إيمانية مسيحية، حتى تستغرقه أكثر مما يحتمل قارئ رواية. نور في النهاية شغوف بكشف ما خفي من قصة المجدلية، يبحث دون كلل يريد أن يردّ على دان براون، وما جاء في روايته «شيفرة دافنشي» من أخطاء لا بد من تصحيحها، بينما يبحث أصحاب البعثة التي انضم إليها عن أشياء أخرى مختلفة تماماً.

البحث هو أحد أعمدة الحكاية. نور يبحث عن نفسه، عن هويته، عن المزاعم التي تنطوي عليها السردية الإسرائيلية، عما يدور في خلد أور، وكيف أنه مختلف عن نور، رغم أنهما يحملان الاسم نفسه بلغتين مختلفتين. هو في حالة بحث عن وقائع تاريخية، عن الآثار التي تخصص من أجلها، وصديقه مراد يبحث في العلوم السياسية، وكل يبحث عما يجعل حياته أكثر وضوحاً.

تذهب الرواية إلى الماضي، إلى التاريخ، لكنها تعود بنا إلى الزمن الحاضر، إلى أجواء سادت أثناء وباء «كوفيد»، والأحداث الأليمة التي رافقت محاولة تهويد حي الشيخ جرّاح، إلى «حماس» التي تهدد وتتوعد، بسبب ما تقوم به إسرائيل من اعتداءات في القدس.

لعل التفاصيل جميعها، تصبح في نظر القارئ هامشية أمام المقاطع القوية التي تدخلنا إلى خوالج نور وهو يلبس جلد أور، يتحاور معه، ويتصادم، يعيش صراعاً عميقاً وعنيفاً. حقاً هي المقاطع الأمتع والأكثر تشويقاً، بحيث نلحظ أنه قادر على أن يتقمص شخصية أور، من دون أحمال مسبقة. الكثير من السماحة والكبر، والقدرة على لبس قناع الآخر، حتى ولو كان عدواً يضع الأصفاد في يديك، يقيدك ويضعك خلف الجدران نصف عمرك.

أسلوب سردي منساب، لكن الحيل الروائية، تخرجه من بساطته وتأخذه إلى حبكات متوالية، وكأن نور بقناعه يجتاز اختبارات واحدها تلو الآخر، ليترك لنا نهاية مفتوحة. وهي الخاتمة التي تبقى مشرعة، لتفسح لخندقجي الفرصة ليكمل رباعيته التي وعد بها. هكذا تصبح «قناع بلون السماء» مجرد جزء أول من سلسلة ستتوالى أحداثها. وهو ما يفسر، الحرص على بناء أحداث مركبة تساعد في فتح أبواب كثيرة قادمة. فكل تفصيل يمكن أن يكون ممراً إلى مكان جديد، يأخذنا إليه الكاتب بحنكته الروائية.

باسم خندقجي الذي لا يزال يقبع في سجون الاحتلال، تتم محاربته بسبب كتابه هذا بوسائل عدة، ويهاجم في الصحف العبرية، فقط لأنه افلح في نشر روايته ولاقت نجاحاً. وتعمل سلطات الاحتلال على مراكمة المخالفات عليه، كي تجبره على دفع ما فاز به ولا تترك له أي مكافأة مالية يحصل عليها، بعد أن فاز على اللائحة الطويلة ومن ثم القصيرة، لجائزة الرواية العربية. وهذه ليست روايته الأولى، كما أن خندقجي الذي اعتقل في 2 نوفمبر عام 2004 وكان لا يزال في التاسعة عشرة من عمره، اصدر ديوانين، ونشر اكثر من مئتي مقالة، وهو يتغلب على سجنه بالحلم والبحث والتعلم، والترفع عن الألم، والكتابة وكأنه يعيش حياة الأحرار. وربما نفهم اكثر حين نقرأ ما كتبه في روايته، مخاطباً صديقه مراد الموجود في الأسر: «كم أحسدك يا مراد على سجنك الأصغر، لأن واقعك الحديدي هذا واضح الملامح مكون من معادلة بسيطة، لكنها قاسية: سجن، سجين، سجان... ولكن هنا في السجن الأكبر الأمور لم تعد واضحة».

الرواية تقع في 240 صفحة، جهد كبير صرفه الكاتب على جعلها غنية بالحيل الروائية، والمعلومات التاريخية، كما الاستشهادات الأدبية، ومحملة برموز ذات دلالات تزيد النص دسامة.

حين تقرأ كتابات باسم خندقجي، وأسامة العيسة، وعدنية شبلي وغيرهم من الكتاب، لا بد أن تعرف الأدب الفلسطيني الجديد، من ميزته وسط غابات الروايات العربية، إنه يتسم بالجدية، والحفر في المعاني، والحرص المستميت على جعله يليق بالواقع الفلسطيني.


دراسات في الهجرة الدولية وانعكاساتها عربياً

دراسات في الهجرة الدولية وانعكاساتها عربياً
TT

دراسات في الهجرة الدولية وانعكاساتها عربياً

دراسات في الهجرة الدولية وانعكاساتها عربياً

تزداد الحاجة باستمرار إلى البحوث الأكاديمية المعمقة في مجال دراسات الهجرة السكانية؛ خصوصاً الدولية، وفي العالم العربي؛ نظراً إلى أن بلدان المنطقة باتت منذ عقود تشترك بقوة في تيارات الهجرة الدولية، سواء بوصفها بلداناً مرسلة للمهاجرين أو بلداناً مستقبلة لهم، أو تضم الصنفين معاً. ومن هنا تجىء أهمية كتاب «العالم العربي... دراسات في الهجرة الدولية ونظرياتها» للدكتور هاشم نعمة، الصادر عن دار «غيداء للنشر والتوزيع» في عمَّان، الأردن.

يقع الكتاب في 244 صفحة من الحجم الكبير، ويضم أربعة فصول، هي في الأساس بحوث أكاديمية كُتبت في أوقات مختلفة.يكتب د. نعمة:»

« بما أن أصناف واتجاهات ومقررات وتأثيرات الهجرة الخارجية باتت تتصف بالتعقيد، وذلك من خلال ارتباطها بعمليات العولمة على النطاق المحلي والإقليمي والعالمي، فمن هنا تجيء ضرورة التعمق في دراستها، من أجل فهم آليات المتغيرات السكانية، وتأثيراتها المترابطة في البنى الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويُسهم في رسم وتنفيذ وتقييم أي خطط مدروسة لانطلاق عملية التنمية بأبعادها الشاملة في بلداننا العربية.

ويبحث الفصل الأول من الكتاب في المفاهيم النظرية المتعلقة بالهجرة السكانية عموماً، ومدى أهميتها في تطوير فهمنا لآليات الهجرة ومقرراتها وأنماطها واتجاهاتها وتأثيراتها؛ إذ تحلل الدراسة نظريات الهجرة على المستوى الكلي وعلى المستوى الجزئي، وتبيِّن تطورها عبر الزمن، والظروف الاقتصادية والاجتماعية التي نشأت فيها، وخصوصاً نشأة النظام الرأسمالي وتطوره، وعلاقته القوية بموجات الهجرة، وعلاقة ذلك بتطور ظاهرة التحضر (توسع المدن). وخلال هذا التحليل تعقد الدراسة مقارنات بين المفاهيم والنظريات، وتبيِّن مواطن قوتها وضعفها، وتنظر لها من ناحية انطباقها على الدول النامية، ومنها العربية، وتجري مناقشة لإبراز أوجه الشبه والاختلاف بين هذه المفاهيم والنظريات.

ويعالج الفصل الثاني تطور الهجرة واتجاهاتها من بلدان المغرب العربي إلى أوروبا، ويحلل ويقارن حجمها وطبيعتها، ويدرس هولندا نموذجاً، نظراً إلى ازدياد ثقل المهاجرين القادمين من البلدان العربية فيها، وذلك من النواحي الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية، وخصوصاً المهاجرين المغاربة؛ إذ يركز البحث على دراسة تطورهم عبر الوقت، ونمط توزيعهم الجغرافي، ومصادر هجرة العمالة في المغرب، ونمط توزيعهم الجغرافي في هولندا، حيث يعيش المؤلف، وأسباب الهجرة والاندماج في المجتمع الهولندي، وتصاعد العنصرية، والحد من عملية الاندماج والتحويلات، مع التركيز على العلاقة المتبادلة بين الهجرة والتنمية الاجتماعية- الاقتصادية، وبصورة خاصة بالنسبة إلى البلدان المرسلة للعمالة. أخيراً، تحلل الدراسة سياسات الهجرة وتخرج بخلاصة.

أما الفصل الثالث فيدرس الهجرة الطلابية من البلدان العربية؛ إذ يتفحص الدراسات السابقة للموضوع. ويقوم بعرض إطار نظري للاستفادة منه في تفسير هذا النمط من الهجرة وفهمه. ويحلل اتجاهاتها الرئيسة، والتحولات التي حدثت فيها زماناً ومكاناً؛ وذلك بالنظر إلى الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، والحروب الداخلية والخارجية التي يعيشها عدد من البلدان العربية. ويدرس البنية العمرية والجنسية للمهاجرين، والبنية التعليمية، ومقررات الهجرة في بلدان الأصل والاستقبال، ويبرز ارتباطها بنسق عالمي بفعل عولمة الاقتصاد والخدمات وتدويل التعليم، ويركز التحليل على مقرر بطالة الشباب خصوصاً، لما له من تأثير بالغ، ويعالج تأثيرات الهجرة المتبادلة، وأهمية التحويلات. ويطرح مجموعة من المعالجات، وفي سياق التحليل يعكس البحث مقارنات بين البلدان العربية خصوصاً، والبلدان النامية والبلدان المتقدمة عموماً، وأخيراً يخرج باستنتاجات.

ويهدف الفصل الرابع إلى رصد هجرة الكفاءات العلمية العراقية، وتحليل حجمها وأنماطها واتجاهاتها، واستعراض تطورها، ومعاينة البنية التعليمية للعراقيين في بلدان المهجر، والتحري عن أسباب الهجرة وأضرارها. وفي الأخير تقترح الدراسة عدداً من المعالجات لهذه الظاهرة للحد منها أو تخفيفها، وعكس اتجاهها.


أحمد ولد إسلم: كتابة الخيال العلمي تقتضي السير على حافة شائكة

الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم
الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم
TT

أحمد ولد إسلم: كتابة الخيال العلمي تقتضي السير على حافة شائكة

الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم
الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم

يطرح الكاتب والروائي الموريتاني أحمد ولد إسلم في روايته الأخيرة «البراني» أسئلة إشكالية تتعلق بالمستقبل الإنساني، يختبرها في سياقات عالمه المُتخيّل الذي تُسيطر عليه الرقمية وتتغوّل فيه الآلة. وقد حاز أحمد ولد إسلم أخيراً على جائزة «شنقيط للآداب والفنون» بموريتانيا، ومن أعماله رواية «حياة مثقوبة» ومجموعة «انتظار الماضي».

هنا حوار معه عبر الإنترنت حول روايته الجديدة، وملامح الحركة الأدبية الموريتانية، وعلاقتها بمحيطها الثقافي العربي...

* في روايتك الأخيرة «البراني» نلتقي بجزيرة وهمية، وروبوتات، وفيروسات آلية، ما التحديات التي واجهتها في بناء وتطوير هذا العالم الروائي؟

- التحدي الأكبر في الكتابة الخيالية العلمية هو الجمع بين المتناقضين، ما هو خيالي، وما هو علمي، وذلك يقتضي السير على حافة رفيعة وهشة تضمن تقديم ما لا يستحيل علمياً حدوثه، ولكنه لم يحدث بعد. وهذه هي المساحة التي تتسابق فيها العقول الأدبية بخيالاتها المجنحة، والعقول الهندسية بأعمالها التجريبية. وهذا السباق الدائم بتحويل الخيال الأدبي إلى منتجات هندسية أو توظيف المنتجات الهندسية العلمية في خلق خيال أكثر طموحاً، هو ما أنتج وسينتج كل التطور التقني الذي تشهده البشرية حالياً ومستقبلاً.

* أيضاً، يبدو عالمك السردي في «البراني» مُنقسماً بين حنين تراثي وإنساني، وآخر غارق في الاستهلاك والاصطناعية، حتى إنك طرحت فيها نبوءة بنهاية العالم... حدثنا عن تلك المسافة.

- في حياة كل منا، أقصد من عاش في المجتمعات العربية، حنين دفين للبساطة والعلاقات الاجتماعية المترابطة، وأحياناً البداوة لمن ينحدر من بيئة بدوية أو ريفية، فنرغب أن نبدأ يومنا برائحة خبز الفرن وكاسات الشاي في لمة عائلية، وأن نتبادل التحيات صباحاً، ونعرف أخبار الجيران، ونختم اليوم بجلسة العصر الجماعية، وكاسات الشاي أو بسمر عائلي يخوض في الذكريات. لكننا في الوقت نفسه، بحكم الواقع الذي نعيشه، نرغب أن نكون أكثر تطوراً، وأن تكون حياتنا أسرع وقعاً، ونتمنى أن تكون لدينا قدرات على مطّ الوقت لتحقيق الإنجازات الصغيرة اليومية الأكثر مما يسمح به وقتنا. ويفرض علينا الواقع أن نكون أكثر فردانية، وتغرينا الإعلانات بثقافة استهلاكية تجعل كثيراً منا ينفق ما لا يملك لشراء ما لا يحتاج فعلاً، على احتمال أنه قد يحتاجه يوماً ما.

هذا المشهد الذي يقرّ كلّ منا في قرارة نفسه بتناقضه هو ما يشكل الحياة، الحياة التي تحدث حقيقة في صراعاتنا بين ما نرغبه من استعادة نفسية للماضي، وما نطمح إليه من القفز ذهنياً إلى المستقبل. وهذا الصراع النفسي الدائم هو ما سلّطت رواية «البراني» الضوء عليه من زوايا مختلفة عبر شخصيات أبطالها اللاهثين بين قطبي هذه الثنائية، يخافون من خسارة الهدوء والسكينة، ويخشون فقدان السيطرة على مستقبلهم.

* هذا الحِسّ في التعامل مع تغوّل الذكاء الاصطناعي والرقمية يبدو له صدى «ديستوبي» في الرواية، هل يمكن فهم مدلول آخر لعنوان «البراني»، بمعنى النبذ واستبدال الإنسانية، أو بتعبيرك في الرواية «الزوائد البشرية»؟

- لا نكون متشائمين إن قلنا إن الواقع العربي الذي نعيشه ديستوبي بطبيعته، ولا يحتاج خيالاً لتصوّر عالم أكثر فساداً وانحداراً مما عليه الحال في عالمنا العربي. ما كشفته الرواية هو جزء من واقع نتجاهله، أو نجمله بإضفاء مسحة من المصطلحات كالعصرنة والرقمنة والتفاعل، نعوض بها نفسياً شعورنا العميق بخسارة أواصرنا الاجتماعية البشرية الحقيقية. ما سيحصل، وقد بدأ بالفعل، ليس إحلال الذكاء الاصطناعي محل البشر، بقدر ما هو إحلال أشخاص يجيدون التعامل مع الذكاء الاصطناعي ويحسنون توظيفه، أو يسيئونه، محل أشخاص لا يجيدون ذلك.

وبالتالي، فإن الخوف من تغوّل الذكاء الاصطناعي هو في الحقيقة خوف من تغوّل المسيطرين عليه، فالآلة في النهاية لا تعرف إلا ما أدخل إليها من إنتاج بشري خالص. وما وصفته الرواية بالزوائد البشرية سيكونون في وقت ما أولئك الذين يتوهمون أن المسيطرين على الذكاء الاصطناعي سيكونون أكثر رحمة بهم إذا انكفأوا على أنفسهم واكتفوا بدور المتفرج أو المستهلك.

* كيف تعاملت مع تعقيدات وأبعاد شخصية بطلك في «حياة مثقوبة»، خصوصاً مع تقييد حركته ومكانه؟ كيف وظّفت تقاطعات ذاكرة البطل كآلية سردية في الرواية؟

- بناء شخصية بطل رواية «حياة مثقوبة» كان أصعب تحدٍّ خضته مع نفسي في مجال الكتابة الإبداعية، فأن تخلق شخصية واضحة المعالم النفسية من غير تحديد مكان أو زمان حتى منحها اسماً تنادى به ليس بالأمر الهين. لكني أردت تقديم شخصية الإنسان المُجرد من كل دواعي التحيز، الإنسان العادي في أشد لحظات حياته ضعفاً وأكثرها صفاء، ولأن فقدان الذاكرة هو الخاتمة الحزينة للقصة كان الأمر مبرراً. فالإنسان في ماهية هويته ليس إلا ما يتذكر عن نفسه ومحيطه؛ فلولا معرفتنا أسماءنا ودوائر انتمائنا لما شكل أي منا هويته كما يراها. ونظرة الآخرين إلينا قائمة على ما تحتفظ به ذاكرتهم من معلومات عنا، ولذلك يمكن القول إن فقدان أي معلومة من الذاكرة هو فقدان لجزء من هوية ما، وهذا ما جعل خلق شخصية بطل «حياة مثقوبة» صعباً، لأنه يفقد في كل فصل جزءاً من هويته.

* علاقتك بالموسيقى تبدو أصيلة، ولا تخفى عمن يقرأ أعمالك، فتتوقف عند وصف مقام، أو مقطوعة، أو أصل تاريخي لنوع موسيقي، هل تتعامل معها بمنطق جمالي أو وظيفي داخل السرد؟

- نشأت في منطقة الحوض الشرقي في موريتانيا، وهي المنطقة التي شهدت قبل قرون نشأة الموسيقى التقليدية الموريتانية، خاصة ما يعزف منها على آلتي «التيدنيت وآردين» وهما الآلتان الخاصتان بالرجال والنساء، على التوالي، في الثقافة الموسيقية التقليدية. النشأة في بيئة كهذه تجعل علاقة أي فرد من المنطقة بالموسيقى علاقة انتماء واحتفاء وارتباط، ويعد أي فرد من المنطقة لا يعرف أساسيات الموسيقى التقليدية ومقاماتها ناقصاً معرفياً في التقييم المجتمعي، ولذلك وجدت توظيف الموسيقى في إطار سردي يكسر جمود النص في رواية «حياة مثقوبة»، ويفتح أفقاً للتعريف بالموروث الثقافي الموريتاني في رواية «البراني».

* تبدو علاقة موريتانيا بالشِعر وثيقة، فيما لا تزال الرواية الموريتانية تقطع خطوات وئيدة في المشهد العربي. هل تتفق مع هذا؟ ولماذا برأيك؟

- هذه «المُسلمة» بأن علاقة موريتانيا بالشعر أوثق من علاقتها بغيره تحتاج إعادة نظر، فهي عند تحليلها بشيء من التفصيل ليست أكثر من صورة نمطية، مثل أي صورة نمطية أخرى رسخها الإعلام والتداول الشعبي. فحين أطلقت مجلة «العربي» الكويتي لقب بلاد المليون شاعر على موريتانيا أواخر الستينات كان هناك احتفاء كبير من الموريتانيين بهذا اللقب، وهو احتفاء مبرر ومتفهم في سياقه التاريخي، فموريتانيا كانت حينها تخوض معركة سياسية وثقافية لإثبات انتمائها للفضاء العربي سياسياً، فلم تكن حينها قد انضمت إلى مؤسسة الجامعة العربية. واستمر لاحقاً الاحتفاء بهذا اللقب وما يعنيه من قيمة معنوية، لأنه يسهل على الموريتاني تقديم نفسه بكلمتين كانتا عنواناً في مجلة. لكن الواقع أن الإنتاج النثري في موريتانيا لا يقلّ عن الإنتاج الشعري، إن لم يربُ عليه. ومع تقلص مساحات البداوة وتمدد الفضاء الحضري أفقياً على امتداد البلاد الشاسعة تقلصت الحاجة إلى الشعر بوصفه حاملاً للثقافة الشفوية، وتعززت مكانة النثر مع انتشار الكتب المرتبطة بالمدنية بطبيعتها.

صحيح أن فنّ الرواية تأخر ظهوره بضعة عقود في موريتانيا عنه في المشرق العربي، لكن الأعمال الروائية الموريتانية التي ظهرت لاقت احتفاء ومكانة كبيرة، ومنها ما صنف ضمن الأعمال العربية الخالدة. ويكفي النظر إلى السنوات الأخيرة لنجد عدداً من الروايات الموريتانية ارتقت منصات تتويج عربية في السعودية، ومصر، وقطر، والإمارات، وربما صار روائيو موريتانيا أكثر شهرة من شعرائها.

* هل ترى أن الجوائز الأدبية ساهمت ولو قليلاً في كسر مركزية القراءة والنشر في العالم العربي؟

- هناك كثير مما يمكن قوله عن الجوائز الأدبية العربية فيما يتعلق بآلية اختيار الأعمال الفائزة وتسليع الأدب وتحويل الكاتب إلى منتج تحت الطلب، لكن لا يمكن إنكار أنها فعلاً فتحت آفاقاً جديدة لكتب ما كانت لتصل لولاها إلى القارئ، خاصة الكتب الواردة من دول الأطراف العربية بعيداً عن المركزية المشرقية.

* قطع الأدب في العالم مسافة طويلة مع الخيال العلمي منذ «فرانكشتاين» ماري شيلي إلى اليوم، برأيك إلى أي مدى واكب الأدب العربي فلسفة هذا النوع الأدبي؟

- لا أستطيع تقييم مدى مواكبة أدب الخيال العلمي في العالم العربي للتطورات، لكن لا شك أنه مجال مفتوح للإبداع وليس قريباً من الاكتفاء الذاتي عالمياً وأحرى عربياً. ربما هناك نقطة مؤثرة على الأديب العربي تجعل إنتاجه في مجال الخيال العلمي لا يحظى بالاحتفاء المناسب، وهي ضعف المناهج التعليمية وأدوات الإنتاج المرئي التي ساهمت في شهرة كثير من الأعمال غير العربية، وأوصلتها إلى مجال أرحب بتحويلها إلى أفلام أو مسلسلات، وهو أمر تفتقر إليه الكتب العربية الصادرة في هذا المجال.

* حصلت أخيراً على جائزة «شنقيط للآداب والفنون» التقديرية الموريتانية، ما صدى هذا التتويج لديك؟ وهل تكتب عملاً جديداً حالياً؟

- لا شك أن الحصول على جائزة الدولة التقديرية، وهي أرفع جائزة أدبية، في مرحلة مُبكرة من العمر، أمر يدعو إلى الفخر والتشجيع، ومن المؤكد أنه منح للعمل فرصة للوصول إلى القراء المهتمين بأدب الجوائز. كما أنه عرّف النخبة الثقافية بنمط من الأدب الموريتاني لم يحظَ بعد بإنتاج غزير، وهذا أيضاً أمر مهم. وحالياً، أعكف على كتابة رواية تستشرف آفاق عالمنا، وتسعى للتفوق على ما قدّمته «البراني»، وآمل أن تكون في المكتبات العربية قبل نهاية هذا العام.