يُعد الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود -رحمه الله- (1850م- 1928م) آخر حكام الدولة السعودية الثانية، وهو أصغر أنجال الإمام فيصل بن تركي بن عبدالله -المؤسس الحقيقي للدولة السعودية الثانية-؛ فبعد أن انتقل والده الإمام فيصل بن تركي إلى -رحمة الله- عام 1282ه/ يونيه 1865م، وحكم لمدة 23 عاماً دبت الاضطرابات والفتن الداخلية بين أبناء الإمام فيصل؛ مما أضعف من قدرة البلاد والدولة على مواجهة الظروف السياسية والاجتماعية؛ بالإضافة إلى النزاعات الداخلية، بل كانت الأطماع الخارجية وحتى الإقليمية قد قطعت أواصر البلاد لا سيما وسط الجزيرة العربية، كما صرفت الحكّام السعوديين عن تحقيق طموحات أكبر في تلك المرحلة، ولذا كانت جهود الملك عبدالعزيز -بعد توفيق الله- ومن قبله الجهود والمحاولات الدؤوبة لوالده الإمام عبدالرحمن الفيصل -طيب الله ثراهما- مؤهلة لتحقيق تلك الطموحات، إذ استطاع الملك عبدالعزيز -بعد كفاح والده- أن يحقق أول وحدة حقيقية بين قبائل العرب في نجد والأحساء وعسير والحجاز؛ ليمهد لتوحيد البلاد والعمل على نشر سبل الأمن والرخاء في ربوعها.

رحل عن الرياض مع أسرته وتوجه إلى البحرين ثم استقر في الكويت عام 1310ه ومكث في «بيت العامر»

الرحيل وفراق الوطن

في أوائل شهر أغسطس عام 1874م/ جمادى الآخرة 1291ه وصل الإمام عبدالرحمن الفيصل آل سعود إلى البحرين قادماً من البصرة عن طريق البحر، ومعه عشرة أشخاص من أتباعه، ولدى وصوله أرض البحرين استُقبل بحفاوة من لدن أميرها الشيخ عيسى بن علي الخليفة، وقام بإكرامه.

وعندما سمع كثير من أهل نجد الموجودين في البحرين بقدومه اتصلوا به، وكان هو يتصل بالقبائل العربية المؤيدة له، ويقابل من يأتي منهم للسلام على أمير البحرين من العجمان وآل مرة بسرية تامة، ولكن وصل ما كان الإمام عبدالرحمن يقوم به من نشاط إلى علم الوالي التركي على منطقة الأحساء والقطيف؛ مما أصابه بالقلق مما يسمع من استفسارات رسل عبدالرحمن وعن موقف القبائل الودي المؤيد له، فحذّر الوالي التركي حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي الخليفة من وجود الإمام عبدالرحمن الفيصل في البحرين، وكتب إليه في أكتوبر 1874م/ رمضان 1291ه رسالة قال فيها: (تلقيت استخبارات فحواها بأن كلاً من عبدالرحمن الفيصل وفهد بن صنيتان موجودان في البحرين حالياً، وتقودهما نواياهما السيئة هادفة خلق اضطرابات ضد الحكومة التركية كما تميل تصرفاتهما إلى التمرد، وأنت تساعدهما .... فكان من الضروري أن أحذرك).

تنازل عن الحكم في الجامع الكبير وتوفي بعد أن رأى ابنه حاكماً على كافة أقاليم المملكة

دخول الأحساء

وبعد أن علم الإمام عبد الرحمن بن فيصل بفحوى الرسالة غادر هو ومؤيدوه البحرين وتبعه خمسون شخصاً من أهالي نجد وبعض المؤيدين له، كما التحق به عددٌ كبيرٌ من أفراد قبائل العجمان وآل مرة وقاد الإمام عبدالرحمن بن فيصل هذه الجموع إلى مهاجمة الأحساء بمساعدة أهلها، وتمكنوا من دخول المدينة وحاصروا جنود الترك في القلعة، لكن الأتراك من جانبهم -بعد أن علموا بالأخبار- أرسلوا حملة وصلت قرب الأحساء في أواخر ذي القعدة 1291ه/ ديسمبر 1874م، فبرز لها الإمام عبدالرحمن الفيصل بجنده، ودارت بين الجيشين عدة مناوشات رأى بعدها الإمام عبدالرحمن بن فيصل أن جيش الترك يفوق جنده عدداً وعدةً فانسحب إلى الرياض.

الملك عبدالعزيز تابع تحركات والده وقلبه معلق في «نجد» يتابع الأخبار ويستعد للمغامرة

مبايعة أهل الرياض

ولما دخل الإمام الرياض جيء بأخيه سعود الفيصل مريضاً إلى الرياض، ولما توفي أخوه عام 1291ه، تولى الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي حكم الرياض بمبايعة أهل الرياض له، وبعد شهرين تنازل الإمام عبدالرحمن لأخيه عبدالله بن فيصل منهيًا الصراع على الحكم، ولكن أبناء سعود بن فيصل بن تركي استطاعوا أخذ الرياض من جديد، ثم حدثت اضطرابات وفتن وتدخلات خارجية إلى يوم الحادي عشر من ذي الحجة عام 1307ه/ 1889م، حيث تمكّن الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي من استعادة الرياض، ولكنه اضطر للخروج منها عام 1309ه/1891م، بصحبة عائلته وجميع أعوانه ليتوجه إلى البحرين، وكان من بين أبنائه (عبدالعزيز) الحاكم المرتقب، فاستقبلهم الشيخ عيسى وأكرم وفادتهم، وبعد أن اطمأن الإمام عبدالرحمن على أسرته في كنف الشيخ عيسى اتجه إلى الجزيرة العربية مرة أخرى ليعمل على استعادة بلاده التي فقدها، وكان عبدالعزيز أكبر أبناء الإمام عبدالرحمن سناً، وكان يحضر مجالس الشيخ عيسى ويصغي كثيراً لما تداوله الوفود والرسل وما تناقشه من أمور السلم والحرب.


الملك عبدالعزيز بعد إعلان توحيد المملكة يوم الخميس 21 جمادى الأولى عام 1351ه/ الموافق 23 سبتمبر 1932م (الأول من الميزان)

محاولات لم تنجح

أما الإمام عبدالرحمن فكانت له عدة محاولات لاستعادة حكمه، ومنها أنه (في سنة 1309ه/ 1981م سار مع جنود كثيرة إلى الدلم، ودخلوها، لكنه لم يستطع الوصول إلى الرياض فاتجه إلى الربع الخالي، ومنها اتجه إلى الدوحة في قطر وبقي هناك لمدة شهرين، ثم عاد إلى أطراف الربع الخالي، وهناك اجتمع مع أبناء عمه جلوي بن تركي ومن معهم من آل سعود وأتباعهم، وبعد مفاوضات مع الدولة العثمانية تم التوصل إلى أن يذهب الإمام عبدالرحمن للإقامة في الكويت التي وصلها الإمام عبد الرحمن الفيصل مع جميع أفراد أسرة آل سعود وكان ذلك حوالي عام 1310ه/1892م.


الملك المؤسس في رحلة صيد

الإقامة بالكويت

وأثناء إقامة الإمام عبدالرحمن وابنه عبدالعزيز بالكويت بجوار مبارك آل صباح، كانا يراقبان الأحداث من حولهما.. وأعينهما وفؤادهما على نجد، وما يدور فيها، بل كانا يستطلعان الأخبار من القادمين منها، وكان عبدالعزيز متوثباً ومستعداً لأمر جلل، كان يود أن يخوض غمار ذلك الصراع، ومما زاد الجذوة اشتعالاً في نفسه وفؤاده، أنه وصلت للإمام عبدالرحمن مكاتبات من اتباعه في نجد يحثونه على القدوم إليهم.

كان الإمام عبدالرحمن قد أقام عند وصوله إلى الكويت فيما يعرف ب(بيت العامر)، فمكث فيه مدة إقامته في الكويت، وخلال تلك الفترة كانت العائلات الكويتية تُجل الإمام عبدالرحمن وكان هو يزور بعض دواوين الكويت عندما توجه له الدعوة، وكان من ضمنها ديوان الخميس شرق المدينة، حيث كان يلتقي بالوجهاء للسلام والترحيب بمقدمه يشاركهم ويشاركونه الأفراح والأتراح.


الملك عبدالعزيز يدير شؤون حكمه بعد توحيد الأقاليم حيث كان الإمام عبدالرحمن شاهداً على بناء الدولة

التنازل عن الحكم

وبعد دخول الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الرياض، وصل الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي إلى الرياض، ثم تسلم الملك عبدالعزيز مقاليد الأمور بعد تنازل والده الإمام عبدالرحمن له عن الحكم والإمامة في اجتماع كبير عقد بالمسجد الكبير بالرياض بعد صلاة إحدى الجُمع عام 1320ه/ 1902م، وظل الأب الإمام عبدالرحمن يُشرف على أعمال ابنه طوال حياته وظل الابن يُجل والده ويقدر آراءه ويحترمها.


قصر المصمك مقر الحكم في الرياض

زاهد ووفي بالعهد

وكان الإمام عبدالرحمن بن فيصل على جانب من العلم، زاهداً بعيداً عن مظاهر الترف، يميل إلى الهوادة، ولم يكن مثيراً للفتن، ولا نقض عهداً حتى مع أعدائه، وتوفي -رحمه الله- بعد عامين من دخول الحجاز، وعاش الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي مساندًا لابنه في كل حروبه، وقد مد الله في عمره حتى شاهد ابنه وهو يجمع معظم مدن وأقاليم المملكة العربية السعودية الحالية تحت لواء واحد بعد ملاحم بطولية دامت حوالي نصف قرن من الزمان.


الجامع الكبير وسط الرياض حيث تنازل الإمام عبدالرحمن لأبنه بالحكم

مدينة الرياض بعد سنوات قليلة من وفاة الإمام عبدالرحمن