The Wayback Machine - https://web.archive.org/web/20221002072156/https://gate.ahram.org.eg/daily/News/202840/151/682353/%D9%81%D9%86/%D8%A3%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D8%B3%D9%84%D9%88%D8%A7-%D9%82%D9%84%D8%A8%D9%89-%D8%BA%D8%AF%D8%A7%D8%A9-%D8%B3%D9%84%D8%A7-%D9%88%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A7.aspx

رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أفراح الذاكرة..
سلوا قلبى غداة سلا وتابا

السمّاح عبد الله

فى عام 1946 زار العاهل السعودى الملك عبدالعزيز آل سعود القاهرة التى ازينت، والصالونات أعدت، والكراسى امتدت فى الاستراحات التى سيمر عليه الموكب الملكى، وأشجار الشوارع ازداد اخضرارها.

على الصعيد الفنى، كان ثمة إعداد لهذه الزيارة، فقد تم تكليف مطرب الملوك «محمد عبد الوهاب» بإعداد أغنية خاصة لتغنى أمام الملك المصرى والملك السعودى، مطرب الملوك من جهته شمّر عن أكمامه، واتصل بمادح الملوك ذائع الصيت «صالح جودت»، ليعد قصيدة بهذه المناسبة الجليلة، ومنحه سبعة أيام فقط لكى يتم الأمر، مادح الملوك معتاد على مثل هذه الأمور الفجائية، فأغلق على نفسه باب غرفته، وركب بحر الرمل، ووضع على هامش الصفحة بالقلم الرصاص عددا من الكلمات التى تنتهى بحرف الدال الذى اختاره ليكون قافية المطلع لقصيدته، ذلك الحرف الذى ينتهى به اسم «آل سعود»، وابتدأ فى النظم مفتتحا قصيدته بهذا البيت:

يارفيع التاج من آل سعود

يومنا أجمل أيام الوجود.

ربما لم تمض سوى ثلاثة أيام، وكانت القصيدة جاهزة، وكان مطرب الملوك يجرب فيها مقام الحجاز، حيث إن هذا المقام هو الأكثر ملاءمة للحدث، فالضيف من الحجاز، وهذا المقام تعود أصوله إلى أرض الحجاز، رغم انتشاره فى بلاد الفرس والشام والعراق ومصر، وبعض بلدان المغرب العربى، كما أن هذا المقام له مقام خاص فى قلوب المسلمين، حيث أنه يستخدم فى الآذان، وكثير من قراء القرآن الكريم يستندون عليه وهم يجوّدون.

أتم «محمد عبد الوهاب» اللحن كله قبل الموعد المضروب، وأجرى عليه مع فرقته الخاصة أكثر من إحدى عشرة بروفة.

الذين يعدون للحفل الكبير، انتبهوا فجأة إلى شيء كان غائبا عنهم: أيُحيى «محمد عبد الوهاب» الحفل وحده؟، وماذا لو كان العاهل السعودى راغبا فى الاستماع إلى «أم كلثوم»؟.

لم يكن متبقيا على الزيارة غير أيام قليلة، فتفتق ذهنهم عن حل جاهز، لا يحتاج إلى وقت كثير لإتمامه، العاهل السعودى قادم من أرض النبى عليه الصلاة والسلام، فلماذا لا تشدو «أم كلثوم» بأغنية «سلوا قلبى»، تلك الأغنية التى كتبها أمير الشعراء «أحمد شوقى»، ولحنها سيد ملحنى القصائد «رياض السنباطى»؟.

وهكذا، تم إبلاغ السيدة «أم كلثوم» بالأمر.

أحد الذين يمشون بين الناس بالخير ميّل عليها، وأخبرها الخبر كله:

«محمد عبد الوهاب»، يا ست، أعد أغنية خصيصا من أجل الزيارة.

أسر لها بهذا الخبر، وتركها والغيظ يأكل قلبها.

هى لم تنم ليلتها، أيقظت كل من يمكن إيقاظهم من أصدقائها الشعراء والموسيقيين والصحفيين، واستدعتهم إلى بيتها، ليجدوا لها مخرجا، صحيح أن الوقت قليل، لكن الحيل كثيرة.

سألها «أحمد رامى»:

هل حددوا لك أغنية بعينها؟

أجابت بنفاد صبر:

نعم، لقد طلبوا منى أن أغنى أغنيتى الجديدة «سلوا قلبى».

وقف «أحمد رامى»، ودار حول نفسه نصف دورة، وقال: لو اننا أضفنا فى نهاية القصيدة بعض الأبيات، تكون على البحر نفسه، والقافية نفسها، نمتدح فيها الملك المصرى والملك السعودى، فلن نكون ساعتها فى حاجة إلى لحن موسيقى جديد، وبالتالى فلن نحتاج للوقت.

ابتهجت «أم كلثوم» لهذا المخرج الذى لم يكن يخطر لها على بال، وأمسكت «أحمد رامى» من يديه وهزتهما بفرح كبير، وهى تقول:

حل رائع، ابتديء من الآن، فليس أمامنا وقت.

أصدقاؤها الشعراء والموسيقيون والصحفيون استحسنوا الاقتراح، وأيدوه من صميم قلوبم.

نقر «أحمد رامى» بأصابعه على المنضدة، نقرات مموسقة، وهو يردد:

سلوا قلبى غداة سلا وتابا

مفاعلتن مفاعلتن فعولن

لعل على الجمال له عتابا

مفاعلتن مفاعلتن فعولن.

ثم سكت.

«أم كلثوم» أدركت أنه دخل فى لحظة الإبداع، ولمحت، وهى الشوّافة الأريبة، شيطان الشعر وهى يهبط من النافذة، تاركا وادى عبقر من أجل المهمة المقدسة، فاصطحبت معها من استدعتهم، وتركت له الغرفة كلها، لينفرد بشيطانه الذى هبط بغباره الأسطورى.

يبدو أن شيطان الشعر لم يكن موافقا على هذه المؤامرة، وبالرغم من أن أمير الشعراء «أحمد بك شوقى» صاحب النص الأصلى لـ «سلوا قلبى» كان متخصصا هو الآخر فى مديح الملوك، وكان يجاهر بذلك فى كل مناسبة، حتى إنه مرة اعترف قائلا:

أأخون إسماعيل فى أبنائه

ولقد ولدت بباب إسماعيلا؟.

فأن ضمير شيطان الشعر، على غير عادته، صحا، لا يدرى أحد لماذا، ورفض أن يمنح السيد «أحمد رامى» أى إضافة جديدة، فخرج إلى البهو، والأسف يعلو وجهه.

«أم كلثوم» لما رأته على هذه الحالة، أدركت الأمر، وسألته:

هل ترشح لى شاعرا آخر ليقوم بالمهمة؟.

أجابها بنبرة أسى:

المشكلة أن بحر الوافر هذا تفعيلاته لا تتناسب على الإطلاق مع المديح.

»أم كلثوم» تعرف أن هذا الكلام مجرد لغو، وتعرف أنه يتحجج بحجج واهية، كما تعرف أيضا أن المديح يحلو أكثر فى بحر الوافر، وأن بحر الوافر هذا هو الذى اختاره أمير الشعراء ليمتدح به خير البشر، لكنها ادعت أنه صدقته، وأعادت عليه السؤال بصيغة أخري:

بمن أتصل الآن من الشعراء؟

بحسم أجابها:

اتصلى بالشاعر «محمد الأسمر».

فى الثانى من يناير من عام 1946، أقلعت الباخرة الملكية «المحروسة» من ميناء السويس، متجهة إلى ميناء جدة، لتقل الملك السعودى إلى القاهرة، حيث استقبله الملك «فاروق الأول» ملك مصر والسودان، فى العاشر من يناير، واستقلا معا عربة ملكية مكشوفة، متجهين إلى قصر عابدين.

فى الحفل، ظهر «محمد عبد الوهاب»، محتضنا عوده بيديه وعينيه وقلبه، وابتدأ فى الغناء:

يا رفيعَ التاجِ مِنْ آلِ سعود

يومنا أجملُ أيامِ الوجود

مَوكبُ الخَيرِ مِنَ البيتِ العتيد

جاءَ يختالُ على النيل السعيد

فصحتْ مصر معَ الفجرِ الجميلِ

تنثرُ الوردَ علَى كلِّ سبيلِ

وهيَ تستقبلُ أنوارَ الخليلِ

ورسولَ الخَيرِ مِنْ عندِ الرسولِ

فإذا الفاروقُ موفورُ الشبابِ

راحَ يستقبلُ بالْبِشْرِ أخاه

أنتما عرشانِ فى ظلِّ الكتابِ

جمعتْ قلبَيهما روحُ الإله.

لم تكف أكف المستمعين عن التصفيق، ولم تكف حناجرهم عن الاستحسان، وكثير من الكوبليهات أعادها أكثر من مرة، حتى انتهى من الغناء، وكان كأنه يحلق فى السماوات العالية. وعندما أطلت «أم كلثوم»، وقفت ممسكة بمنديها الأزلى، وهى لابسة فستانها البنفسجى، على عينيها نظارتها العتيقة، وعلى صدرها وردة كبيرة، وابتدأت غناء القصيدة.

كثير من المستمعين كانوا يرددون الكلام معها، فالقصيدة شهيرة، والكلام محفوظ، واللحن خطّاف، فسمّيعة أربعينيات القرن الماضى كانوا مازالوا يقرأون الشعر، ويرونه ديوان العرب، وكان الدكتور «جابر عصفور» فى الثانية من عمره بعد، ولا يعرف الكلام ولا الشعر ولا النقد، ولم يكن قد صك بعد مقولة «الرواية ديوان العرب»، وعندما وصلت «أم كلثوم» إلى البيت الذى تمتدح فيه نبينا الكريم بقول «شوقى» على لسانها:

مدحتُ المالكِين فزدتُ قدرا

وحين مدحتُك اجتزتُ السحابا.

بدت للنُّظَّارِ وكأنها تجتاز السحاب بالفعل، ورأوها وهى ترفرف بيديها كالحمامة البيضاء، فالتهبت أكفهم بالتصفيق المدوى، واستعادوا البيت مرة ومرة ومرة، وهى بذكائها المعهود، كانت تعيد معه الكوبيليه كله، منذ تقريرها بأن نيل المطالب عادة لا يأتى بالتمنى، وإنما علينا أن نأخذ الدنيا كلها غلابا، وكانت تقبض على أصابعها وهى مضمومة على منديلها الأزلى لما تصل لجملة «تؤخذ الدنيا غلابا»، فتخرج الآهات من صدور الناس وكأنهم يقومون بثورة فى ميدان الإسماعيلية، وكانت بعد هذا البيت ترقق صوتها بعض الشيء، فهى عارفة أنها توجه كلامها للحبيب، فتكاد تذوب من الهيام وهى تقول له معتذرة:

أبا الزهراء قد جاوزتُ قدري

بمدحك بيد أن لى انتسابا.

حتى تصل إلى البيت الخاتم للقصيدة، وتغير فيه كلمة «المؤمنين» إلى كلمة «المسلمين»، فينتبه السميعة العارفون بالقصيدة التى قرأوها فى الشوقيات، والمصدقون بأن الشعر ديوان العرب، لكنهم اعتادوا على مثل هذه الأفاعيل منها، ومَن غيرها يمكنهم أن يعتادوا منها على فعل ذلك؟، ولما انتهت من قولها:

وما للمسلمين سواك حصن

إذا ما الضر مسهمو ونابا.

حتى واصلت الموسيقى السنباطية العتيقة عزفها، فظن أكثر الظانين أنها – كعادتها – ستعيد الكوبيليه، إلى أن فوجئوا بمنديلها يتأرجح فى يمينها وهى تقول كلاما إضافيا، لا علاقة له من قريب أو بعيد بكلام شاعر الأمراء وأمير الشعراء، لكنه يشبهه بعض الشىء، فالإيقاع هو، وبحر الوافر وافر الجمال كعادته، لكن المقام الكلامى اختلف، والمقصد الفنى اتجه ناحية غير الناحية التى يعرفها السميعة، كانت «أم كلثوم» تقول ممتدحة مليك مصر والسودان، وضيفه الكريم:

وكيف ينالهم عنت وفيهم

رضا ملكين بل روضين طابا

إذا الفاروق باسم الله نادى

رأى عبد العزيز قد استجابا

فصن يا ربنا الملكين واحفظ

بلادهما وجنبها الصعابا

هما فجر العروبة أنجبته

فقالت يومى المرجو آبا

إذا اتحدت أسود الشرق عزّت

عروبتهم وصار الشرق غابا.

لما عاد الملك «عبد العزيز آل سعود» إلى بلاده، أرسل إلى كل من «محمد عبد الوهاب» و «أم كلثوم» و»محمد الأسمر» بردة من فاخر الثياب، وساعة ثمينة.

المراجع الغنائية فى المملكة العربية السعودية، كثيرا ما تذكر قصيدة «سلوا قلبى» منسوبة إلى الشاعر «محمد الأسمر»، لكن الإذاعة المصرية، بعد فترة، حذفت من الأغنية أبيات الشاعر «محمد الأسمر»، مكتفية فقط بأبيات أمير الشعراء، الذى لو كان حيا وقت زيارة العاهل السعودى، لكان كتب قصيدة منفردة لهذه المناسبة الجليلة.

رابط دائم: 
 
 
 
 
 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق