في 22 شباط/ فبراير 2021، صرّح رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، بعدم وجود أيّ معتقل على خلفية سياسية أو حرية الرأي والتعبير لدى الأجهزة الأمنية بالضفة الغربية.
لكنّ الحقيقة لم تكن كذلك. ففي ذات الشهر سجلت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان تسع شكاوى تتعلق باعتقالات على خلفية سياسية، نفذتها الأجهزة الأمنية التي يرأسها رئيس الوزراء نفسه بصفته وزيراً للداخلية.
يروي الشاب عيسى أحمد الملقّب "أبو عنتر" تفاصيل اعتقاله الأول في 2018، على خلفية سياسية، والذي استمر 19 يوماً تعرّض خلالها للتعذيب والشبح (وقوف أو جلوس المعتقل في أوضاع مؤلمة لفترة طويلة وهو مقيّد اليدين) لساعات في مقرّ المخابرات الفلسطينية في سجن الجنيد.
بعد يوميْن من الاعتقال، نُقِلَ أبو عنتر (26 عاماً) إلى زنزانة انفرادية لا توجد بها دورة مياه، وكانت باردة جداً بلا فراش ولا أغطية، "كنت أضع رأسي على قنينة المياه للنوم كوسادة، وكنت اضطر لقضاء حاجتي في قنينة فارغة". بعد ليلة واحدة في هذه الزنزانة، أُعيد إلى الغرفة الانفرادية، بقي فيها أربعة أيام لم يُسمح له خلالها بالتواصل مع أحد.
حال "أبو عنتر" كحال 61% ممن تعرّضوا للتعذيب من بين 250 حالة اعتقال موثّقة في هذا التحقيق، "كانوا يضعون كيساً أسود على رأسي ويكبلون يديَّ للخلف ويرفعونني للأعلى، ولا يفكون يديَّ إلّا بعد أن يتحوّل لونهما إلى أزرق… هذا الشبح كان يتكرر، وفي كل مرة يكون أشدّ وجعاً"، حسبما روى.
ثمانية أيام أمضاها بين جلسات التحقيق القصيرة والتعذيب والعزل، دون عرضٍ على النيابة، التي يجب أن تكون خلال 24 ساعة من التوقيف بموجب قانون الإجراءات الجزائية في المادة (107).
بعد مماطلة، سُمِحَ لابن نابلس بالاتصال مع عائلته وتوكيل محامٍ حضر معه الجلسة التالية، وقدّم له طلبات إخلاء السبيل تمّت الموافقة على أحدها بعد 19 يوماً من الاحتجاز.
حالة أبو عنتر واحدة من بين أكثر من 2600 حالة اعتقال وثّقها التحقيق في الضفة الغربية خلال الفترة بين 2015 وحتى منتصف 2021، وذلك بالاستناد إلى أعداد الشكاوى التي وصلت الهيئة المستقلة من قبل المعتقلين أو ذويهم، ما يشير إلى أنّ الحالات قد تكون أكثر من ذلك.
250 حالة اعتقال في الفترة بين كانون الثاني/ يناير 2018 وحزيران/ يونيو 2021، حلّلها التحقيق بالاستناد إلى بيانات مؤسسة الحق، واستبيان ومقابلات مع عددٍ من المعتقلين السابقين. لم تخلُ حالة واحدة من انتهاك أو أكثر لأحد إجراءات الاعتقال والاحتجاز والمحاكمة العادلة التي ضمنها قانون الإجراءات الجزائيّة الفلسطيني، و القانون الأساسي الفلسطيني لسنة 2003.
(شهد العام 2018 أعلى عدد حالات اعتقال تعسّفي)
الاعتقال التعسّفي هو "حرمان الأشخاص من حرّيتهم الشخصية بشكل مخالفٍ لنصّ وروح القوانين الفلسطينيّة والدوليّة".
%26 من حالات الاعتقال الـ 250 الذين وثقنا حالاتهم اعتُقلوا على خلفية سياسية عام 2018 (نفس العام الذي شهدت فيه الضفة الغربيّة مسيرات احتجاجيّة ضدّ فرض السلطة الفلسطينيّة عقوبات على قطاع غزة). أبو عنتر كان من بين الذين اعتُقلوا هذا العام على خلفية سياسية، لكنّه تفاجأ في المحكمة بالتهمة الموجهة إليه: "تفاجأت بتمديد اعتقالي بتهمة لم تُذكر ولم أسأل عنها في التحقيق، وهي حيازة سلاح غير مرخّص، وهو ما صدمني".
وفي العام التالي، سُجّلت أكثر حالات الاعتقال بواقع 85 حالة، إذ زادت الاعتقالات على خلفيّة سياسيّة تزامناً مع الإعداد لانتخابات مجالس الطلبة في جامعات الضفة الغربيّة، والحراك ضدّ قانون الضمان الاجتماعي، كما تقول الحقوقية سحر فرنسيس مديرة مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان.
وعلى خلفية منشور له على مواقع التواصل الاجتماعي انتقد فيه السلطة الفلسطينية، اعتُقل أبو عنتر مرة أخرى في العام 2020، وهو العام الذي وثّقنا فيه 62 حالة اعتقال، تزامناً مع إعلان حالة الطوارئ في آذار/ مارس بسبب جائحة كورونا، وحراك ذوي الإعاقة. مسلسل الاعتقالات تواصل في عام 2021 مع استمرار حراكات مطلبيّة ضدّ الفساد والتحضير لإجراء الانتخابات، ثمّ الاحتجاج على إلغائها، حيث وثّقنا 27 اعتقالاً حتى نهاية حزيران/ يونيو.
وكان لصدور القرار بقانون بشأن الجرائم الإلكترونية رقم (10) لسنة 2018، واستخدامه في ملاحقة منتقدي السلطة -كما تقول سحر فرنسيس- انعكاسه على ارتفاع عدد المعتقلين على خلفيّة حرية التعبير والنشر، والذي وصل إلى 41 حالة من أصل 250.
على خلفيّة سياسية
على خلفيّة حرية التعبير والنشر
على خلفيّة حراك مطلبي
تحليل بيانات 250 حالة تمّ اعتقالها بشكل تعسّفي بين عاميْ 2018 و2021
تجربة أبو عنتر في الاعتقال الثاني كانت مختلفة. تعرّض -كما يروي- للاختطاف من دون مذكرة توقيف، على خلفية قضية مرتبطة بحرية النشر والتعبير، فتهمته كانت ذمّ السلطة. اعترضت مجموعة مسلّحين بلباس مدني مركبة عمومية كان يستقلها، واعتقلته من دون إبراز أيّ بطاقات تعريفيّة مكتفين بالقول: "مخابرات".
نُقل إلى مقرّ المخابرات ثمّ إلى سجن الجنيد في نابلس، حيث خضع للتحقيق لمدة 13 يوماً. ولم يُسمَح له بالتواصل مع عائلته أو المحامي، وهو ما جعله يُضرِب عن الطعام حتى سُمِحَ له بإجراء المكالمة الأولى.
فيما بعد، واجه أبو عنتر مماطلات في السماح له بالتواصل مع المحامي، وهو ما جعله يُعلن إضرابه عن الطعام مرة أخرى. "بعد يوميْن من الإضراب حولوني إلى العزل الانفرادي، ورفضت فكّ إضرابي حتى سُمِحَ لي بالتواصل الهاتفي"، كما يقول.
بعد 13 يوماً، حصل أبو عنتر على قرار بالإفراج عنه، لكنّه تفاجأ بطلب جهاز الأمن الوقائي تحويله إلى مقرّه للتحقيق، ولم يُفرج عنه إلّا بعد أن تدخّل أحد معارف العائلة من خارج السجن.
في كانون الأول/ ديسمبر 2019 اعتقل (ب، ع) من رام الله لدى جهاز المخابرات، على خلفية سياسية أيضاً، وبعد أيام من الاعتقال والتعذيب حصل على قرار من المحكمة بالإفراج عنه بعد دفع كفالة مالية.
دفع والده الكفالة ليتفاجأ برفض الجهاز الإفراج عنه. تكرّر الأمر مرة ثانية وثالثة، وفي كلّ مرة يقوم الوالد بدفع كفالة الإفراج. وبعد 111 يوماً، قرر القاضي الإفراج عنه مقابل كفالة مالية أيضاً، وهذه المرة أُفرِجَ عنه بالفعل.
حالة (ب، ع) كانت أطول فترة تأخير إفراج وثّقناها من بين 57 حالة من مجموع الحالات الـ 250. وتراوح تأخير تنفيذ القرار من قبل الأجهزة الأمنيّة بين ساعات، كما حصل مع 16 حالة، ويوم كامل، كما حصل مع 12 معتقلاً آخر.
ثاني أطول مدة تأخير إفراج كانت لـ 57 يوماً، وهي حالة المعتقل محمد خالد ملحم من محافظة جنين، الذي اعتقله جهاز الاستخبارات العسكرية عام 2019، ورفض الإفراج عنه ثلاث مرات بالرغم من قرارات المحكمة.
ومن بين 186 حالة صُودرت أغراضها الخاصة عند الاعتقال، لم يسترد 83 معتقلاً ما صودر منهم بعد الإفراج عنهم مباشرة، وبعضهم استمرت مطالباته بهذه الأغراض لأشهر، والبعض الآخر لم يتمكن من استلامها نهائياً.
"بعد 48 ساعة من التعذيب المتواصل، فقدت قدرتي على تمييز الأصوات والرؤية، ورائحة الدم النازف على جسدي كانت لا تطاق". بعد أشهر من التجربة التي خاضها في سجون السلطة الفلسطينية، لم يكن "صالح محمد زهران" من بلدة دير أبو مشعل قرب رام الله، قادراً على احتمال وجع جسده خلال تعذيبه على يد جهاز الشرطة الفلسطينية، بداية عام 2021.
اعتُقل زهران من مستشفى عام في رام الله، وكانت التهمة المُعلنة هي "التحريض على الأجهزة الأمنية، والتواجد في مكان محظور"، ولكنّ التحقيق معه لم يتطرّق لهذه التُهم "خلال التحقيق اكتشفت أنّ ملفّي السياسي وقرار اعتقالي كان جاهزاً من قبل، ولكن كانت تنقصهم حجّة الاعتقال".
على مدار 48 ساعة، بقي زهران مقيّد اليدين والرجلين وممنوعاً من الجلوس بشكل مستقيم، وخلال ذلك كان محققٌ يضربه على رأسه، وفي حال رفعه يضربه من جديد، ثمّ يأتي آخر ويضربه على بطنه، وإذا تحرّك للخلف يُضرب على ظهره.
إلى جانب ذلك، تعرّض لسيل من الشتائم كلّما حاول الحديث، والضرب على وجهه بعد كلّ كلمة يقولها، والتهديد بنقله إلى أريحا وتعذيبه أكثر. "لم يُسمح لي بالتواصل مع محامٍ أو مع عائلتي لطمأنتها أنّني على قيد الحياة".
التعذيب لم يقتصر على زهران، وإنّما طال 61% من الحالات الموثّقة في هذا التحقيق وعددها 250، في مخالفة للقوانين الفلسطينية والاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها فلسطين.
نسبة من تعرّض للتعذيب
نسبة من لم يتعرّض للتعذيب
تحليل بيانات 250 حالة تمّ اعتقالها بشكل تعسّفي بين عاميْ 2018 و2021
لم تعلّق الأجهزة الأمنية على ما توصلنا إليه من نتائج. إذ اعتذر الناطق باسم المؤسسة الأمنيّة الفلسطينيّة اللواء طلال دويكات عن الردّ من دون إبداء الأسباب. طلبُنا بالردّ قوبل بالرفض أيضاً من قبل الناطق باسم وزارة الداخليّة د. غسان نمر، بحجة أنّ "هناك توجّهاً معيّناً متبعاً خلال العمل على التحقيق".
تحليل بيانات 250 حالة تمّ اعتقالها بشكل تعسّفي بين عاميْ 2018 و2021
"تعرّضت للضرب على وجهي، وتخلّل جلسات التحقيق إجباري على الوقوف مباعداً الرجليْن لأقصى مسافة، رافعاً يديّ للأعلى ومعصوب العينيْن. كما ضربني أحد المحققين بكيس بلاستيكي بداخله قنبلة غاز معدنيّة فارغة أصابتني أسفل البطن، كنت لحظتها واقفاً فسقطت أرضاً جرّاء الألم الشديد".
"هاجمني أربعة عساكر بالضرب بأيديهم وأرجلهم بـ "البساطير" على أكتافي وبطني وعلى أرجلي، وكانوا يشتمونني ويشتمون الذات الإلهية، الضرب استمر لمدة 20 دقيقة تقريباً وكان الضرب بقبضات الأيدي على بطني وكتفي الأيسر وعلى ركبي. وأكملوا ضربي بأرجلهم على مناطق متفرقة من الجسم وبشكل قوي وعنيف".
"تعرّضت لضرب "الفلقة" بأنبوب بلاستيكي "نبريش" على باطن قدميّ بقوة. هذا الضرب تكرر أربع مرات متقطعة. بعد الضرب، كان المحقق يطلب مني ويجبرني على السير داخل ممر أمام مكتب التحقيق والركض حافي القدمين لمدة 10 دقائق. تمّ تقييد يديّ بالحبل من الخلف ورمي الحبل من فوق الباب الحديدي وسحبه بقوة حتى يصبح جسمي منحنياً الى الأمام على شكل قوس وربط الحبل بالباب الحديدي من الخلف، وتكميم رأسي بالكيس. جلسة الشبح كانت تستمر عشر دقائق. كلّ ذلك إلى جانب العزل والصراخ والتهديد".
"في بداية احتجازي لدى الأمن الوقائي، تعرّضت للضرب في جميع أنحاء جسمي بالإضافة إلى الشتم والإهانة، وبعدها تمّ نقلي إلى سجن أريحا، وهناك تمّ شبحي مدة لا تقلّ عن 6 ساعات باليوم، بالإضافة للضرب الشديد على جسدي ووجهي وإهانتي وشتمي وشتم عائلتي، وكلّ هذا تكرر معي لمدة 10 أيام أثناء اعتقالي، بعيداً عن الظروف اللاإنسانية التي كنت أعيشها، وإجباري على شتم رموز المقاومة".
بحسب الحقوقيّة سحر فرنسيس، فقد تراجع التعذيب خلال السنوات التي أعقبت توقيع الاتفاقيات، لكنّه لم يتوقف وارتبط عادةً بتطوّرات الأحداث السياسيّة الداخليّة. فرنسيس أضافت أنّ توقيع الاتفاقيّات الدوليّة بحاجة للمواءمة مع القوانين المحليّة؛ فالقانون الجنائي الفلسطيني مثلاً، لا يتضمن تعريفاً للتعذيب ولا معايير واضحة لمحاسبة من يمارسه.
يرفض المحامي غاندي أمين، رئيس مجموعة الحقّ بالقانون للمحاماة والاستشارات، هذا الاستنتاج. الخلل الأساسي، برأيه، يكمن في تجرؤ السلطة التنفيذية على القانون دون أن يكون هناك رادع لها من السلطة التشريعية والقضائية.
حاولنا عرض التوصيات بمواءمة القوانين، والاستنتاج بوجود خلل في سلامة تطبيقها، على وزير العدل محمد الشلالدة أو من ينوب عنه، إلّا أنّنا تلقينا رداً بالرفض بعد حوالي شهر من المراسلات. وتواصلنا مع مديرة وحدة حقوق الإنسان بوزارة الداخليّة، هيثم عرار، للاستفسار عن أسباب استمرار التعذيب بما يخالف الاتفاقيّات الدوليّة، وجاء الردّ بالرفض، لأنّ التحقيق "تشرف عليه (أريج) غير المسجّلة في فلسطين"، بحسب قولها.
وحول دور المؤسسات الحقوقيّة في الحدّ من الانتهاكات، تشير فرنسيس إلى مهمة مؤسسة الضمير في توثيق ومتابعة ملفّات المعتقلين محلياً أولاً، ودولياً برفع شكاوى للمقررين الخاصين ولجان تطبيق الاتفاقيات ومجلس حقوق الإنسان.
ولكنّ أبو عنتر لم يتوجه بنفسه إلى أيٍّ من هذه المؤسسات، لعدم ثقته بقدرتها على إحداث أيّ تغيير، وهو ما يوافقه عليه المحامي أمين، فهذه المؤسسات تراجع دورها خلال السنوات الأخيرة، كما يقول.
لا يقتصر أثر التعذيب على المعتقلين أنفسهم، بل يمتد إلى عائلاتهم، التي تعيش تفاصيل التجارب القاسية لسنوات لاحقة، من شعور بالملاحقة وعدم الأمان، كما يقول أبو عنتر الذي بدا غير قادر على إخفاء آثار اعتقالاته رغم مرور عام على اعتقاله الأخير. "ما يعانيه المعتقل ما بعد الاعتقال أكبر، وكأن ناراً تشتعل داخلي، أيام لا أستطيع النوم"، يقول.